كتاب وشعراء

…حدث في المعرض… بقلم الكاتب القاص خضر الماغوط

حدث في المعرض…
بنظارةٍ كبيرةٍ سوداء تغطِّي نصف وجهه، وقبعةٍ غربية الطراز، دخل رجل عريض المنكبين إلى بهو المعرض، حيث يوجد الكثير من الزائرين يتفرجون على اللوحات التشكيلية المعلقة على الجدران.
نظر في البداية إلى الوجوه الموجودة في الصالة، وعندما اطمأن بأنه لا يوجد أحد من الممكن أنْ يتعرف عليه، أو هو لا يعرف أحداً على الأقل، رفع النظارة عن عينيه، ووقفَ أمام أقرب لوحة من جهة الباب، حيث تفصله عن رصيف الشارع، واجهةٌ واسعةُ من الزجاج الصافي النقي .
كان زوار المعرض في حركة دائمة يتنقلون لمشاهدة جميع المعروضات كالعادة.
إلا هو فقد ظل ثابتاً ولم يتحرك من مكانه، وبقي يتفرج على تلك اللوحة القريبة من الباب.
طال وقوفه في نفس المكان، وهو ينظر مرة إلى ساعته، ومرة إلى الشارع، ومرة إلى اللوحة.
هذا الوقوف الطويل زمنياً أمام لوحة واحدة، أثار حفيظة صاحب الصالة، فاقترب منه يساومه على إمكانية شرائه للوحة التي أعجبتهُ دون غيرها، عارضاً عليه الفرصة لحضور بازار يتم فيه مناقشة الأسعار إن كان يرغب بذلك .
لكن هذا الزائر الغامض لم يعرهُ اهتماما، بل اكتفى بأن يومئ له برأسه علامة الرفض دون أن يتكلم، وما زالت عيناه تتنقلان بين اللوحة وبين ساعته والشارع.
أيضا الرسام الذي كان مشغولا بالحديث مع الزوار في أرجاء المعرض جاء إليه ليشكره على حسن ذوقه بالتدقيق الطويل في لوحته، مما يدل على أنه ذواق فني متمكنٌ من دراسة التفاصيل كما توهم الرسامُ .
إلا أن الرجل اكتفى أيضاً بهز رأسه، لم يتكلم أيضاً، وعيناه على الشارع، فتركه الرسام وراح يتحدث مع زائر آخر.
ثم اقترب منه ناقد فني مؤكداً له: بأن هذه اللوحة فعلاً تحتاج إلى التأمل البصري لأنها قد تكون في المستوى الخامس من مستويات الفن الترميزي الإيحائي خارج الدلالات الزمنكانية، وتبدو بألوان مخاتلة منزاحة لا تلتزم بالإنثيالات التوافقية المتعرجة في المسار الزمني الخطي حيث تبدو البنية الدلالية وكأنها هاربة من الشعور السيكوباتي المتعشبق على محور اللاشعور الفردي والجمعي من خلال الناستالوجيا التي تعود لمرحلة التواكب الفينيقي الأول، كما يزعم الناقد.
وعندما لم يجد هذا الناقد الفني أي تجاوب أو انتباه من هذا الزائر، تركه وراح يحكي عن تأثير الحالة الزمنكانية لزائر آخر.
ثم اقتربت منه صحافية شابة ذات ملامح سيليكونية بلاستيكية الوجه، لتطلب منه المشاركة في الإدلاء برأيه لمقال في صحيفتها حول أهمية وجود المسمار الذي يثبت اللوحة على الحائط، وإن كان يمكن إقامة هذا المعرض بلا مسامير، لأن المسامير هي التي تجعل العلاقة حميمية بين اللوحة وبين الجدار المعلقة عليه…
كانت الصحافية الشابة ما زالت تكلمه حين أدار لها ظهره، وخرج مسرعا من باب الصالة ليتناول الأغراض من يدي زوجته، التي كانت تتسوق…
وكان ينتظرها في صالة العرض، هرباً من رداءة الطقس بالخارج.
***

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى