كتاب وشعراء

في العزلة وكراهية الغرباء……بقلم سمير اليوسف

هناك من يختار العزلة لسبب أو آخر. وهناك من يولد في عزلة، عزلة العائلة، القبيلة او الطائفة، او الدولة نفسها. كما كانت حالة ألبانيا في عهد أنور خوجة.
الروائي الالباني الكبير اسماعيل كادريه لم يجد تورية أفضل في تصوير بلاده من العودة بها الى قرون سابقة. وكأن التاريخ كان قد توقف في البانيا في القرن الخامس الميلادي.
تقريباً كل الناس الذين يولدون الى جماعات معزولة غالبا ما يظهرون كانهم وصلوا الآن من ماضٍ بعيد. شيء في شخصيتهم، في سلوكهم، في مظهرهم يشي بانهم كائنات “انتيكية” فرتّ من المتحف.
وللعزلة، او الانعزال، سيكولوجيتها أيضاً. الارتياب والخوف، تجاه أي انسان من خارج مدار العائلة او القبيلة او الطائفة، الخوف الهستيري (زينوفوبيا) من الغريب والغرباء أو الأجانب.
أول معرفتي بهذا الضرب من الكراهية للغرباء كانت من خلال مشاهدة برنامج تلفزيوني لبناني يُدعي “يسعد مساكم” لكائن عنصري بغيض يدعى أديب حداد. تدور احداثة في ضيعة نائية (معزولة) بطلها، ابو ملحم، شخص تقليدي قادم من زمن الحروب الأهلية المبكرة ما بين الدروز والمسيحيين في القرن التاسع عشر او ما قبل ذلك. فيلسوف الضيعة هذا يقوم بالتدخل لحل المشاكل بين الناس، وفي النهاية الى تزويد المشاهد بالخلاصة المعهودة ومفادها انه لا مشكلة تحدث الا بسبب تدخل الغرباء.
بعد ذلك كانت التجربة الفعلية في اكتشاف الحقد والكراهية عند ابناء الطوائف المختلفة، شيعة وسنة وموارنة.. طوائف منطوية عل نفسها وكراهيتها للآخرين، تربي أطفالها على كراهية كل من يختلف عنها. امرأة شيعية طيبة قالت مرة لوالدتي (وهي شيعية): زوجك انسان صالح، للاسف انه سني.
وكان هناك الذين يعرفون بأني فلسطيني ويستغربون “لا يبدو عليك انك فلسطيني”
وكيف هو الفلسطيني بالضبط؟ برأسين، مثلاً؟ أو ثلاثة سيقان؟
جهل مثير للضحك والبكاء معاً.
ولاحقاً في قبرص (جزيرة) والنظرة الفوقية تجاه القادمين من البلاد العربية. حتى القبارصة، يا الله!
ثم بريطانيا، جزيرة، وعقلية الناس المحاطين بالمياه بدلاً من البشر. العلاقة (أو بالاحرى انعدامها) مع الاتحاد الأوروبي صورة واضحة لهذه العقلية المنغلقة على ذاتها.
في بريطانيا أحد اكبر الحزبين في البلاد، حزب المخافظين، كان أعضاؤه حتى وقت قريب يتفاخرون في اعلان كراهيتم للأجانب. بعض سياساتهم حول حق الهجرة ما زالت حتى الآن تنم عن كراهية للأجانب. مرة مع صديقة انكليزية، وكنا قد انتهينا من ممارسة الحب، ودخلنا في حوار عن امر ما أو آخر، اذ بي أفاجئ بها تقول لي “أنتم الأجانب ..”
-نحن الاجانب؟ سألتها، وماذا كنت تفعلين مع “الأجانب” قبل دقيقتين ونصف؟
كانت هذه نهاية العلاقة بالطبع.
اليوم على الفيسبوك أتعرف وأتحاور مع اصدقاء افتراضيين. وما بين وقت وآخر، يظهر لي ابن او ابنة جماعة منعزلة. ابناء وبنات التربية التي تقوم على الخوف وكراهية الغريب، عقول مغلقة وقلوب مغلقة، بؤس انساني ما بعده بؤس.
ولكن كل مرة أكاد ان أفقد الأمل وأستسلم لليأس يظهر شخص، امرأة أو رجل، ليبرهن لي بأن الخسارة ليست كاملة أو نهائية. هناك بالفعل من تمرّد على الجماعة التي ولد ونشأ فيها واخترق اسوار عزلتها الذاتية. بعضهم وصل تمرده حدّ القبول بالمنفى مصيراً. يذكرونني ببعض شخصيات روايات كادرايه التي رفضت بأن تكون مجرد كائنات “انتيكية” في متحف. شخصيات حررت مقاييسها الأخلاقية من قيد الغريزة والعاطفة واستنجدت بخيال انساني يمضي بعيداً عن حدود الأوطان الصغيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى