كتاب وشعراء

موال في وداع عدوية …بقلم محمد عكاشة

لم يكن عدوية مجرد مغنواتي كما كانوا يطلقون عليه بل كان صوت القاهرة ببائعيها الجائلين وحرفييها في المناصرة والمغربلين وباب النصر
ومقاهيها التي تفترش أرصفة الزاوية الحمرا
وبوابة المتولي والقلعة والدرب الأحمر
(دا الجميل إللي في حارتنا
إللي ساكن بعد بيتنا)
كان عدوية يمثل لي بملامحه الصريحة جدا والتي تعبر عن الوجع المخفي في ورش النجارة والخراطة والتنجيد بل عن الوجع في روائح غراء الجولة عند الصورماتية ولاصقي الفورمايكا والقشرة الموجنه
(يامدندشة والدندشة غية )
كان حاجبيه حادين كثيفين يحتلان جبهته كمظلة مطعم فول في العتبة حين ينشد( عيلة تايهة تايهة ياولاد الحلال). وكانت عيناه التي يجري في بؤبؤها أتوبيسات هيئة النقل العام من أحمد حلمي مرورا بالوايلي والعباسية حتى مقابر الإمام يطفو على صفحتها لامعان جمالكة الخشب في الدراسة حين يصدح( بالسح الدح إمبو) وكان أنفه ينتفخ كناي معبأ بصفير تروماي عبدالعزيز وصيحات الصنايعية في ورش الحدادين في السيدة عيشة.. وكان فمه مفتوح على الأه في جرحها وشدوها وأنينها.. فم كباب زويلة الذي شهد شنق طومان باي في حسرة وألم.. فم يطلق أوجاع الترسو وسط زحام..(زحمة يا دنيا زحمة… زحمة وماعدشي رحمة.).وانتشار الكاسيت وياقات القمصان العريضة والبناطيل الشلستون والجزمة المورتاني وفتحة القميص حتى السرة وسلسة المفاتيح التي تتدلى في عروة البنطلون العايق أبو رجل واسعة والسوالف الطويلة ونشيده( من فوق شواشي الجبل).. وسط بائعي الطماطم والخضار
وجه واضح لا يتوارى في قناع رغم ندبات الزمن وقهر الأيام وشعر مهوش أسود فاحم يحتل نصف جبهته.. حين يتمايل ثانيا ذراعيه في حركة مرحة وجادة في نفس الوقت فينقلك من الفرح للحزن في لحظة خاطفة
مداعبا مريديه وهم يتمايلون في حضرة مواويله الصادحة الحارقة كشطة خضراء مع طبق فول بالزيت الحار على عربة في باب اللوق
عيناه تشرقان في أمل لا يكل
(أنا اشتكيت لطوب الأرض من حالي)
هو ميكانيكي المحبة واستورجي المشاعر ونقاش الصحبة وترزي المواويل
(ياقلبي صبرك على إللي راح ولا جاشي)
سريح بقدرة فول كل يوم الصبح
وشيال في وكالة البلح
(ياليل ياعين ياليل ليلي ليل ياعين)
مواويله الشامخة بمذاق تمر هندي في ميدان رمسيس أو بفص برثقال حادق يلهب الحنجرة بجلبابه الأسكندراني الضيق وقمصانة المشجرة كلافتات باب الحديد وخطواته المتأنية حول راقصات ناشطات تحس أنهن يذوبن في سمار وجهه ونحافة جسده ويتم حكاياته
وأغانيه التي جمعها راوي سير الغلابة والمشردين( أيه ده كله أيه ده كله.. طب أيه طب أيه إللي واخد عقلي كله)
هذا الصوت المبحوح الموجوع النافر الباكي يجز الفراغ من رقبته وأنت مقدم على الرحيل ويجعل الفرح بكاء وأنت تهرب من أحزانك
يلاحقك وأنت تجري وراء أتوبيس إمبابة ليلحق بك وأنت تقفز على عتبة بابه المزدحم
يرافقك وأنت تائه في شوارع الفجالة بكلمات وله ياااااوله يامنصور…
فأمسى سارينة إسعاف بولاق وكلاكسات أتوبيسات المنيب
وجرس بائع السوبيا وصياح بائع البطاطا في المعصرة
الصوت المزمار الناي الربابة الذي شكل وجدان ملايين المصريين في وقت كانت فيه الحياة تنتفض وتغير من جلدها
وكانت القاهرة كدوامة بعد التحرر تخرج ألامها ومصابيها ليطببها عدوية( بأغراب يادنيا ) وكانت مصر ثكلى بأوجاع الحرب وجروح محبوسة تبغي النزيف وكانت تتمدد وتفتح صدرها لفتاها الشارد الغناء الباكي في رجاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى