نصر القفاص يكتب :حكاية “حارة السقايين..والحزب الجديد” 18
هوامش على دفتر السفلة والسفهاء!!
أصبحت أهرب من ملاحقة الأخبار, بسبب ما تجرفنى إليه من ذهول!!
أخبار عالمنا العربى تأخذنى إلى إحباط شديد, وتكاد تجعلنى أفقد عقلى!!
أخبار مجتمعنا المصرى أصبحت تصيبنى بحالات ضحك هستيرية, رغم قتامتها وابتعادها عن المنطق فى مجالات عديدة – أخشى قول كلها – خاصة تلك التى تتعلق بالسياسة والاقتصاد والإعلام!!
أجد فى أفلام زمان.. أغانى زمان.. مسرحيات زمان.. علاجا مناسبا.. وأجد فى مباريات كرة القدم الأوروبية – خاصة الدورى الانجليزى – هامشا منعشا.. ربما لسعادتى الغامرة بهذا الشاب الذى يصنع معجزة فى “ليفربول” لدرجة أن اسمه – محمد صلاح – يشغل الكرة الأرضية باسم مصر.. وعلى دربه ظهر “عمر مرموش” فى المانيا.. وتبقى “أم كلثوم” مع كتب التاريخ, هما الفقاعتين اللتين أفضل دخولهما حتى لا أكتب!!
عشت حياتى أقرأ وأكتب.. ومؤخرا وجدتنى أتجنب الكتابة.. ربما لأن هذا الفعل أصبح خطرا, بقدر خطورة الكلام حتى لو كان مجرد أسئلة.. وإذا كنت قد نجوت عندما سألت عن سر “صبرى نخنوخ” و”إبراهيم العرجانى” و”هشام طلعت” و”أحمد عز” إلى آخر قائمة الأسماء التى تفرض نفسها كألغاز.. ونجوت عند دهشتى بالكتابة من وزير تربية وتعليم لم يحصل على مؤهل, وقدموه لنا على أنه يحمل درجة الدكتوراه.. ثم انكشف أمر التزوير, فتم تصحيح الخطأ – الجريمة – بقرار يدعونا لأن نناديه بصفة “السيد” قبل اسمه!!
تجنبا للأخطار حاولت تجاهل ما زعموا أنه حزب جديد, وأطلقوا عليه “الجبهة الوطنية” لأن “الوطنية” المقصودة لا علاقة لها بما تحمله الكلمة من معنى سام ومقدس.. لاعتقادى فى أن الوطنية لا يمكن تجسيدها فى لاعبى سيرك يجيدون اللعب على الحبال.. ومستحيل أن تكون مرادفا “للبلياتشو” الذى يفجر ضحكات الأطفال.. ولا يمكن أن تكون “الوطنية” توصيفا لعمليات ترويض لحيوانات مفترسة أو أليفة!!
أذهلنى أن الحزب الجديد انطلق, قبل انتهاء إجراءات تأسيسه فى ممارسة مهامه ونشاطه غير مكترث بالقانون.. فالحزب الذى مازال تحت التأسيس, يعقد اجتماعات فى أفخر الفنادق.. يحشد جماهير فى كافة المحافظات.. يطلق سياراته تجوب المدن وتحمل أعلاما, تستدعى للذاكرة ما كنا نشاهده من جانب تنظيم “القاعدة” و”داعش” وغيرها من التنظيمات الخطيرة والمحظورة.. لكننى باعتبارى من الذين يحسنون الظن, رأيتها استدعاء لسنوات “القمصان الخضراء” و”القمصان الزرقاء” و”قمصان الجوالة” فى الزمن الليبرالى.. وكانت كلها شبه ميلشيات لأحزاب “الوفد” و”مصر الفتاة” و”جماعة الإخوان”.. واستلزم اجتثاثها سنوات وتفاهمات ومفاوضات!!
حرضنى صوت “شريفة فاضل” وهى تغنى من كلمات “حسين السيد” وألحان “منير مراد”.. أغنية “حارة السقايين”.. أن أخوض فى حكاية حزب “الوطنية الحديثة” خاصة أن أغنيتها تقول:
على مين.. على مين.. على مين
على مين يا سيد العارفين
على مين بتبيع الحب – الحزب – لمين؟!
إن كنت جاى تغنى.. روح اسأل قبلا أنا مين
ماتروحش تبيع المية فى حارة السقايين!!
هنا ضحكت لأن كلمات الأغنية, مع صوت “أم البطل” جعلتنى أستدعى حكاية حزب “الاتحاد” الذى أسسه الملك “فؤاد” لمواجهة “الوفد” الذى التفت حوله الأمة.. وفشلت العملية بأسرع مما تصور “جلالته”.. لأنها انتهت إلى انتخاب “سعد زغلول” رئيسا للبرلمان.. هنا قرر الملك حل البرلمان بعد ست ساعات من انعقاده.. وكرر “جلالته” التجربة فى حزب “الشعب” الذى فاز بأغلبية “مفبركة” حافلة بالتزوير عبر أجهزة الأمن والرشاوى.. وانطلق الحزب بقيادة “إسماعيل صدقى” رئيس الوزراء الذى كان “رجل أعمال” وانقلب من كونه أحد أركان “الوفد” إلى “مستبد” لا تهمه غير السلطة.. لذلك ألغى دستور 1923, وصاغ ما نعرفه بدستور 1930 الذى تم تفصيله على مقاس “جلالته” لتشتعل مصر, وتعيش حالة عدم استقرار لنحو ثلاث سنوات.. هنا اضطر الملك إلى التخلص من “إسماعيل صدقى” وإلغاء دستوره الملاكى, وأعاد دستور 1923, بتعليمات وأوامر السفارة البريطانية.. وقارئ التاريخ يعرف أن “إسماعيل صدقى” فوجئ بأن الجماهير وجموع الانتهازيين فى حزبه إنفضوا من حوله بسرعة مذهلة.. فقال جملة تحفظها ذاكرة التاريخ, ويعلمها أساتذة التاريخ: “يؤسفنى أننى اعتمدت على السفلة والرعاع”.. وكان ذلك قبل أن تغنى “شريفة فاضل” ساخرة: “بتبيع الحب – الحزب– لمين.. إن كنت جاى تغنى.. روح اسألة قبل أنا مين”.. لكننا فقدنا الذاكرة تجاه “جلالته” ورئيس وزرائه المستبد.. بل فقدنا حتى الذاكرة تجاه أغنية “حارة السقايين” بعد أن خلدها “يوسف السباعى” فى روايته التى تحولت إلى فيلم “السقا مات”!!
يقولون “شر البلية ما يضحك” وهذا يفسر حالة الضحك التى تنتابنى عندما أتابع الزمن يعود للخلف لنحو قرن من الزمان.. رغم أن بعضنا يعتقد أن الزمن عاد لنصف قرن فقط, لأنهم شاهدوا تكرارا من “زمن أنور السادات” الذى اخترع ما قيل عنه “الهرولة” عندما سارع نواب حزب “مصر العربى الاشتراكى” الذى ترأسه “ممدوح سالم” وقت رئاسته للوزراء, بمغادرة سفينته إلى “حزب الرئيس” وجعلوا اسمه “الوطنى الديمقراطى” لنشهد تدشين “وطنية السيرك” المنصوبة منذ ذلك الوقت!! لكن “ممدوح سالم” غادر الساحة السياسية فى صمت, ولم يقل كما قال “إسماعيل صدقى” وقتها: “يؤسفنى أننى اعتمدت على السفلة والرعاع” وهم لا يموتون!!
كان مذهلا بالنسة لى أن أسمع “خابور استراتيجى” يقول عن الحزب الجديد, أنه لن يحكم ولن يعارض.. وكان معه وزير سابق, ويبدو أنه أكمل تعليمه لينال وظيفة طرف “إبراهيم العرجانى” أحد رجال المرحلة ورموزها.. فسمعته يقول أن “جبهته” العريضة جدا مستعدة للتحالف مع أى وكل فصيل سياسى, من “الناصرى” إلى “الوفدى” مرورا بالذين تطاردهم شبهات جنائية.. ولا مانع من بعض السلفيين, الذين لا يفضلون “شريفة فاضل” ويحبون “عايدة الشاعر” فى أغنيتها “كايدة العزال أنا من يومى”.. وبما أن الشئ بالشئ يذكر فقد اختار “أنور السادات” زعيم “الحزب الوطنى الديمقراطى” آنذاك المطرب “محرم فؤاد” ليغنى فى حفل تدشين حزبه: “والنبى لنكيد العزال” وهذا ما حدث بالفعل, وهى حقيقة حتى لا تعتقد أننى أحاول تجويد السخرية.. تضاعف بعد ذلك ذهولى عندما شاهدت “ناصرى غامق” وهو “سامح عاشور” كأحد مؤسسى الحزب الجديد.. يظهر ليقول أن الحزب الذى لا يسعى للحكم, يكون مجرد جمعية خيرية.. تفاديا لعاصفة السخرية من “الناصرى الفاتح” بدرجة “خابور” بعد أن تأكد فشله – وهو مؤكد – وتقرر تسليم راية الدفاع لنقيب المحامين الأسبق أمام محكمة الرأى العام!!
باعتبارى نشأت وترعرت فى مدينة “دسوق” وذاكرتى لا تفارقها أيام وليالى سيدى “إبراهيم الدسوقى” فقد أصبحت هذه الأجواء, تأخذنى إلى الماضى.. كما التاريخ.. مع فارق أن أجواء الموالد يجوز أن تتضمن نصبا وتدليسا.. لكن التاريخ يسخر من النصابين ويرفض المدلسين.. ويستمتع الذين يقرأون التاريخ بكلمات أغنية “حارة السقايين” خاصة عندما يسمعون “شريفة فاضل” وهى تقول:
يا ما لك فى الحب – الحزب – ضحايا.. يحكوا عنك روايات
بيقولوا انك بتألف فى الليلة سبع غنوات
والغنوة الواحدة فى ليلة.. تلحنها سبع مرات
وتروح تانى يوم وتقولها بحنان ودموع وآهات
إن كنت فاكرنى منهم.. روح اسأل قبلا أنا مين
المؤسف فى الموضوع أن قلائل من الذين يعرضون “بيع المية فى حارة السقايين” فقدوا ضمائرهم.. لأن كلماتهم ومواقفهم ماتت.. إرتضوا الدفاع عن منهج فاشل.. إجتهدوا دفاعا عن أصحاب أسماء ساقطة بالضرورة.. راحوا يحاولون تقديم “العبث” على أنه نظرية علمية تناسب واقعنا الذى رفض “طوفان الأقصى” وراح يسخر من دماء الشهداء ودموع الأطفال الجائعين, والشيوخ المذهولين.. ولو أن البعض اتهمنى بالسخرية فى مقام الجد, سأذكر لهم حكاية قصيرة أبطالها نجوم يعيشون بيننا.. فأذكر أن “على الحجار” قدم أغنية من كلمات “ناصر رشوان” قبل نحو ربع قرن.. كان عنوانها “حليلى المسألة”, وعندما سمعتها رأيتها أغنية وطنية.. كتبت رؤيتى على صفحات “الأهرام العربى” واندهش للأمر المطرب الكبير والشاعر البديع مع الملحن الرائع “أمير عبد المجيد”.. لذلك أرى أن أغنية “حارة السقايين” أصبحت كلماتها تحمل كل معانى السياسة, وليست مجرد أغنية شعبية.. ويمكن أن تكون أغنية وطنية, وعنوانا للمرحلة.. قبل تطبيق قانون الإجراءات الجنائية الجديد, الذى يجعلنى متهما ما لم أتخذ كل وسائل الحيطة والحذر بعدم الكتابة أو الكلام!!