كندا بين الواقع والوهم : مهاجرون بين الأمل والخيبة….بقلم دعاء الصالح

لطالما كانت كندا الوجهة التي يحلم بها الملايين، حيث تُسوَّق على أنها أرض الفرص والمساواة، حيث يمكن لأي شخص بناء مستقبل مزدهر إذا امتلك الطموح والمثابرة. ولكن خلف هذا الوهم المغلف بالدعاية الوردية، تكمن حقيقة مُرّة لا يدركها الكثيرون إلا بعد فوات الأوان. كندا ليست جنة المهاجرين كما يُشاع، بل هي بلد يفرض تحديات مرهقة تجعل تحقيق الأحلام أمرًا بعيد المنال.
عند وصولهم إلى كندا، يجد المهاجرون أنفسهم في مواجهة واقع جديد، حيث تعترضهم صعوبات شتى، من تعلُّم اللغة، إلى البحث عن عمل في سوق مغلق ومحتكر، وصولًا إلى التكاليف الباهظة والضرائب التي تستنزف أي دخل يحصلون عليه. وبمرور الوقت، تتضح الفجوة الهائلة بين التوقعات والواقع، فيصبح عليهم التأقلم، كلٌ بطريقته، مع هذه الحقائق القاسية.
يمكن تصنيف المهاجرين إلى كندا إلى ثلاث فئات رئيسية، لكل منها تجربتها الخاصة في التعامل مع هذا الواقع الجديد.
الفئة الأولى: القادمون في مقتبل العمر
تشمل هذه الفئة الشباب في بداية العشرينات، لا سيّما أولئك الذين جاؤوا من بيئات صعبة مليئة بالتحديات. يمتلك هؤلاء فرصةً أكبر للاندماج، إذ إن أمامهم متسعًا من الوقت لإعادة بناء حياتهم، حتى لو اضطروا للبدء من الصفر، بل إن بعضهم جاء من أوضاع أسوأ من الصفر. وتساعدهم الخدمات المقدمة على تحقيق نوع من الاستقرار النسبي، على الأقل في المراحل الأولى من حياتهم في كندا.
الفئة الثانية: المعتمدون على المساعدات الحكومية
تتكوّن هذه الفئة غالبًا من أولئك الذين لا يتقنون اللغة، أو ممّن تجاوزوا منتصف الأربعينات. يعتمد بعضهم على إنجاب عدد كبير من الأطفال، نظرًا لما يوفره لهم ذلك من دعم حكومي سخيّ، مما يجعلهم يعتمدون اعتمادًا شبه كامل على المساعدات الحكومية. ورغم شعورهم بالوحدة وصعوبة الاندماج في المجتمع، فإن استقرارهم المالي النسبي يدفعهم إلى تقبّل هذا الوضع، خاصة من أجل مستقبل أبنائهم.
إنهم أشخاص اختاروا التعايش مع الواقع القاسي، حيث أدركوا أن فرصهم في تحقيق حياة مهنية ناجحة في كندا تكاد تكون معدومة، سواء بسبب عوائق اللغة، أو متطلبات سوق العمل الصعبة. ومع ذلك، يبررون تضحياتهم هذه بأنهم يؤمنون مستقبل أبنائهم، الذين قد يحظون بفرص أفضل في هذا البلد، حتى لو كان الثمن هو بقاؤهم في عزلة اجتماعية وعدم قدرتهم على تحقيق ذواتهم.
الفئة الثالثة: الحالمون الذين اصطدموا بالواقع
تشمل هذه الفئة غالبًا من تتراوح أعمارهم بين منتصف العشرينات ونهاية الثلاثينات، وهم ممن أكملوا تعليمهم الجامعي ويتقنون اللغة الإنجليزية أو الفرنسية جيدًا، كما أن شهاداتهم لا تحتاج إلى معادلة للعمل في كندا.
وهنا يكمن محور الحديث، فهذه الفئة تضمّ الأشخاص الذين صدّقوا الصورة المثالية عن كندا، معتقدين أن الحياة ستسير بسلاسة منذ لحظة وصولهم، وأن الحكومة ستوفر لهم دعمًا كافيًا في البحث عن عمل وتطوير الذات، وأن كندا هي “بلد الأحلام” الذي عجزوا عن تحقيقه في بلدانهم. لكن سرعان ما يكتشفون الحقيقة، حيث لا تمرّ سوى بضعة أشهر حتى يصطدموا بواقع البيروقراطية المُرهقة.
تأخذ إجراءات مثل تصاريح العمل بين 7 إلى 10 أشهر، بينما تستغرق معاملات الإقامة نحو ثلاث سنوات، وتصل فترة انتظار الجنسية إلى سنة ونصف. في غضون ذلك، يمضي العمر، ويستمر النزيف المادي بلا توقف، حتى يجد البعض أنفسهم مضطرين للعمل في وظيفتين، أو يضطر الزوجان للعمل معًا فقط لتأمين احتياجات العائلة والعيش بكرامة.
وفي المقابل، لا تكون المساعدات المقدمة لهم كافية حتى لتغطية الاحتياجات الأساسية، وكأنهم يُعاقَبون على عملهم ودفع ضرائبهم، التي تذهب لدعم الفئة الثانية التي تعتمد على المساعدات الحكومية بالكامل.
من يعمل يُعاقب!
وهناك بند مهم جدًا في كندا: “أنت تعمل، إذن أنت مُعاقب.”
فإذا كنت تعمل، فأنت محروم من كل المزايا الحكومية، بينما من لا يعمل تُدفع عنه جميع التكاليف!
• إذا احتجت إلى علاج أسنان، عليك أن تدفع.
• إذا رغبت في إشراك أطفالك في الأنشطة الرياضية أو أي نوع من الفعاليات، فالأمر مكلف للغاية.
• أسعار الخدمات الأساسية مرتفعة إلى درجة ترهق أي شخص يعتمد على دخله الشخصي، بينما يتمتع من يعتمد على المساعدات بالكثير من الامتيازات مجانًا.
وكأن النظام الاقتصادي مصمم ليُحبط كل من يسعى إلى تحقيق الاستقلال المالي، مما يدفع الكثيرين إما إلى اللجوء إلى الديون، أو التوقف عن العمل تمامًا للحصول على المساعدات مثل غيرهم.
مشكلات كندا: البيروقراطية، الاحتكار، والضرائب
في ظل القوانين التي تدّعي العدل والمساواة، يعاني المهاجرون الجدد من عراقيل لا حصر لها، تبدأ من الخدمات الصحية المتدهورة، حيث يمكن أن ينتظر الشخص شهورًا لمقابلة طبيب، وصولًا إلى سوق العمل المحتكر من قبل مجموعات معينة، مثل اللوبي الهندي والصيني، الذي يفرض نفسه على قطاعات واسعة، مما يجعل من المستحيل تقريبًا على المهاجر الجديد الحصول على وظيفة دون علاقات أو “توصية”.
أما النظام التعليمي، فبدلاً من أن يكون بوابة للمهاجرين لتحسين مهاراتهم، يتحول إلى فخ مالي، حيث يُطلب منهم إعادة الدراسة للحصول على شهادات كندية، مما يجبرهم على اللجوء إلى القروض الطلابية، التي تجعلهم أسرى للديون لسنوات طويلة، وتُقيّد حركتهم داخل البلاد.
الضرائب في كندا: استنزاف بلا مقابل
النظام الضريبي في كندا يُعد من الأشد قسوة، حيث تُفرض الضرائب على كل شيء تقريبًا، بدءًا من الدخل، مرورًا بالمشتريات، وصولًا إلى الخدمات الأساسية. هذه الضرائب المرتفعة تستنزف جزءًا كبيرًا من دخل الأفراد، ما يجعل الحياة في كندا أكثر كلفة مما يتوقعه القادمون الجدد. والمفارقة أن الخدمات العامة، مثل الصحة والتعليم، رغم تمويلها بهذه الضرائب الباهظة، تعاني من تراجع في الجودة وكثرة التعقيدات.
وبحسب ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة: “فإن الدولة التي تفرط في الضرائب تفقد قدرتها على البقاء، لأن المواطنين يفقدون الحافز على العمل والإنتاج، ويصبح الاقتصاد ضعيفًا، مما يجعل الدولة عاجزة عن تلبية احتياجاتها، ويؤدي ذلك في النهاية إلى زوالها.”
وهذا تمامًا ما يحدث في كندا، حيث يدفع نظامها الاقتصادي المرهق المواطنين إلى فقدان الدافع للعمل والإنتاج، مما يضعف الاقتصاد، ويفقد البلاد مكانتها السياسية والاقتصادية، وربما في نهاية المطاف، يجعلها الولاية الـ 51 لأمريكا على سبيل المثال
هل يستحق الجواز الكندي كل هذه التضحيات؟
إذا كنت شخصًا طموحًا تجاوز الثلاثين من عمره، فلا تضع آمالك في وهم كندا. فبالرغم من مشكلات بلداننا العربية، فإنها – بكل ما فيها من أزمات – قد تكون خيارًا أكثر استقرارًا من حياة مليئة بالقيود والديون في بلد لا يمنحك سوى القليل مقابل تضحيات كبيرة.
الاعلامية :