نص نثري ……. بقلم // علي درويش // المغرب

حين تأكدتُ أن ما يظهره الناس مخالف تماما لما يُبطِنون وأن ما تدركه حواسنا منهم هو مجرد تمويه لإخفاء حقيقتهم، حينها أشفقتُ على الفيلسوف الساخر ديوجين الكلبي صاحب الفانوس الشهير ، الذي راح يتجول به نهارا في دروب أثينا، فلما استغرب الناس كيف يحمل فانوسا مضيئا في واضحة النهار؟.
أجابهم جوابه الشهير :
– “أبحث عن الإنسان”.
الظاهر أنه قصد بذلك، أنه لم يصادف الإنسان الحامل لقيم الفضيلة والصدق والوفاء من بين من عرفهم أو صادفهم، لكن بتعبير أعمق لم يعد لإنسان القيم الفضيلة وجود في ظل النفاق الاجتماعي.
إنما فيلسوفنا الساخر المسكين لم يكن يعلم بأن قرونا بعد عصره ذاك، سيحقق ذلك الإنسان الذي كان يبحث عنه المعجزاتِ بل الخوارقَ التي كان بنو عصره يتخيلون بعضها في شكل أساطير لاهوتية.
هاهو الإنسان يا ديوجين قد طور علوما مادية وأخرى لا مادية ليعرف بها الكون ويعرف ببعضها نفسه أكثر فسمى هذه الأخيرة العلوم الإنسانية، ها هو يبتكر تكنولوجيات تفوق دقة رصد فانوسك العتيق للإنسان ملايين الدرجات ، يكفي أن أذكر لك منها المجهر العادي، والمجهر الإلكتروني الماسح والمجهر الإلكتروني النافذ، ومئات الأقمار الاصطناعية وملايين الكاميرات التي تفوق دقة التقاطها حدود الخيال.
ومع ذلك، لتطمئن -يا ديوجين- فكل ما ابتكره العقل البشري وكشف به أسرار الطبيعة والكون، لم يمكنه من كشف حقيقته هو، أي حيقيقةَ هذا الكائن الذي سميته هازئا “إنسان”.
فهذا الكائن اللغز، في طريقه ليتجرد من القيم الإنسانية التي ملأت صفحات المجلدات الدينية والفلسفية والأدبية والفنية.
اعلم -يا ديوجين- و من أخذ عنك وحتى من ليس من مدرستك، بأن نفاق البشر الذين التقيت بهم أنت في حياتك فحكمت بأنهم لا يستحقون صفة (إنسان)، لم يكن نفاقهم إلا نفاقا بدائيا مكشوفا سببها رذائل ارتكبونها.
أما إنسان عصر العلم والتكنولوجيا والحضارة والتقدم الإلكتروني والوعي الفكري الهائل -يا ديوجين- فقد أفلح في أن يجعلك عاجزا قاصرا عن أن تميز بين الخيال والحقيقة المادية.
لذلك فبحثنا نحن أبناء هذا العصر عن الانسان أصبح عصيا أكثر بل ازداد تعقيدا.
نسيتُ أن أخبرك -يا ديوجين- بأنني كدتُ أصرخ مرددا عبارة تُنْسبُ إليك، حين زعموا أنك أمرت الأسكندر الأكبر بكل قامته وهيبته أن يتنحى لأنه يحجب عنك الضوء، فصرخت:
-“دعني أرى الشمس!”
ع.د