منوعات و مجتمع

السفرجي الخصوصي للملك فاروق الأول ملك مصر والسودان وصاحب بلاد النوبة ودارفور وكردفان…يدعى عبد المتعال..

يقول عبد المتعال..
أؤكد أنني كنت لصيقًا بجلالته ووثيق الصلة به لدرجة ربما لن يصدقها معظمكم.. لم أكن أفارقه لساعة واحدة سواء في سراي عابدين العامرة أو سراي القبة أو غيرهما من سرايات واستراحات القاهرة
حتى إذا ذهب إلى #رأس_التين أو المنتزه فأنا في العربة التي تلي عربته بقطاره الملكي، بل أحيانًا في نفس العربة.. غرفتي محجوزة مقدمًا بيخوت جلالته “فخر البحار” و”#المحروسة” إذا ما فكر في رحلة بحرية بأحد البحرين الأحمر أو المتوسط.
جواز سفري المخصوص متخم بتأشيرات سارية إلى معظم دول العالم.. ملوك العالم ورؤساؤه يحفظون شكلي، ومعظمهم يعرفونني بالاسم!
تريدون أن تعرفوا.. في عام 1908 جئت إلى الدنيا، كان خالي جعفر حسين في إجازة بقريتنا #توشكى_النوبية الواقعة جنوب أسوان.. مازح الخال والدي قائلًا: عبدالمتعال معي في قصر الخديو ي الحاج إسماعيل، وظيفته محجوزة مقدمًا.. في إجازتي المقبلة سوف أصحبه معي.. خالي جعفر وابنه حسن كانا طباخين في السرايات الخديوية
وأنا في الثامنة من عمري، جاء خالي ليصطحبني معه إلى القاهرة للعمل هناك.. كنت في شوق إلى رؤية #مصر_المحروسة التي طالما راودتني في الأحلام.. وصلنا إلى منزل خالي في عابدين.
رأيت من خالي وجها لم أعهده من قبل، كان يحكم قبضته الحديدية على يدى النحيلتين المعروقتين وهو يجرني كالخراف إلى حيث لم أكن أدرى، كانت نصائحه تتوالى
عبدالمتعال أنت الآن رجل.. سوف تعمل وتكون مسؤولًا عن نفسك وعن أبيك وأمك ثم عن زوجتك وأولادك.. سوف تعمل في مكان يحسدك عليه الوجهاء والأعيان.. ستكون في #معية_السلطان ولكن بعد عام أو عامين.. سآخذك الآن إلى مطعم الخواجة “ألبرتو” حيث ستعمل “مرمطون”
المطعم في شارع المدابغ.. خمس دقائق ستمشيها من منزلنا فى عابدين.. أجرك قرش صاغ فى اليوم، أي ريال ونصف كل شهر.. احتفظ بربع ريال وأرسل الباقي إلى أبيك، أما انا فلا أريد منك شيئا سوى أن أراك رجلا دخلنا #مطعم_الخواجة
رحّب الرجل بخالي ودعاه إلى شرب القهوة. أشار ناحيتي سائلًا، أنت عبده؟.. انحبس الكلام في حلقي أومأت برأسي: “نعم”
شرب خالي القهوة ثم انصرف بعد أن طمأنني أن أحد #العاملين_بالمطعم من جيراننا، وسوف يصحبني في العاشرة من صباح كل يوم ثم يعود بي بعد منتصف الليل حتى أحفظ الطريق
ظللت شهرًا أعمل أي وكل شيء، أي “مرمطون”، بدأت اتخصص في تفريغ الصحون من بقايا الأكل في مكان مخصوص ثم تسليمها إلى مساعد غاسل الصحون الذي ترقيت ونلت وظيفته، كنت استمع لكل كلمة، بل كل حرف يقوله الخواجة أو رؤسائي في المطبخ وأنفذه بدقة متناهية
النظافة ثم النظافة ومن بعدهما النظافة.. الصوت المنخفض وعدم المجادلة.. ثم ترقيت من مساعد #غاسل_للصحون إلى غاسل لها ثم صبي مساعد الطباخ
عرفت كل دقائق المهنة وأسرارها. رفع الخواجة أجري إلى نصف ريال في الأسبوع وكافأني بالنزول إلى الصالة مساعد جرسون، حيث ظهرت مواهبي الدفينة. مَن لم يتعلم المهنة في مطعم إيطالي فهو على المهنة دخيل. المطبخ الإيطالي أيها السادة هو “البريمو” في تقديم الخدمة المثلى للمعدة البشرية
عامان ونصف العام قضيتها في خدمة #الخواجة_ألبرتو.. المكان الذي دخلته خائفًا مرتعبًا أفكر في الهروب والعودة إلى أحضان أمي ها أنا أغادره باكيًا منتحبًا.. يربت الخواجة على كتفي وبينما يضع في جيبي جنيها كاملًا كمكافأة نهاية خدمة يؤكد أنه وخالي اختارا لي الأصلح.. ما هو الأصلح؟.. إنه الخدمة في سراي حضرة صاحبة العظمة الوالدة باشا
أدخل إلى القصر لأول مرة في صبح خريفي بصحبة خالي. كأنني أرى الدنيا لأول مرة، شجر غير الشجر. وبشر بخلاف البشر. وهواء ليس كالهواء. أعبر بوابات وحراسًا وأتجه إلى حيث المطبخ لأعمل مع خالي. #مرمطونًا أعود. أبدأ السلم من أوله من جديد وأترقى فيه أيضاً من جديد
رغم نبوغي في الطبخ إلا أنهم اختاروني للعمل في “#السيرفيس”. قرابة السنوات الخمس قضيتها في البدرومات حتى جاءت لحظة ظهوري إلى النور وصعودي إلى قاعة الطعام السلطانية
تمامًا مثلما ترونه في الأفلام.. بهو لا تعرف من أين بدأ وإلى أين ينتهي.. سقف كأنه السماء.. رسوم على الحوائط والأسقف تكاد تهبط لتحادثك.. ضوء خافت متدرج يخدر أعصابك.. تشعر أنه ما من أحد يمشى على الأرض بل فوقها يخطو.. الكلام بل حتى النَفَس بحساب، مازلت أذكر “#كركبة” بطني.. ارتعاش أطرافي.. احتباس صوتي.. كل هذا رغم وقوفي بعيدًا على رأس ترابيزة توزيع فرعية
لم يكن أبي يفكر في احتمالية أن يرى مأمور مركز الدر، وها هو ابنه ابن الخامسة عشر يرى جهارًا #السلطانة_ملك، والسلطان فؤاد، وزوجته نازلي، وكل أمراء وأميرات الأسرة المالكة ونبلائها.. أسابيع قلائل، بعدها وصدر قرار تعييني موظفًا منتظمًا لا مؤقت.. في تحقيق الشخصية الذي استخرجوه لي يكتبون في خانة المهنة سُفرجي، وأمام محل الإقامة #سراي_عابدين
في يناير من عام 1924 انتقل للعمل في السلاملك سفرجيًا درجة ثانية ويقفز راتبي من تسعة ريالات إلى جنيهين ونصف.. أتكيف مع العمل.. يزداد عشقي له ويتضاعف إبداعي فيه.. أمارس دور السفرجي الأول في أوقات الأزمات بلا وجل.. اعتدت التخديم على السفراء والوزراء والنبلاء، بل حتى الضيوف من الرؤساء والملوك، ولكننى لم أكن أبدًا “#البريمو” حتى جاء الفاروق
في أكتوبر من عام 1936 أي بعد شهور ستة من تولى مولانا، صدر الناطق السامي بأن أكون السفرجي الخصوصي لجلالته.. كان وديعًا.. هاشًا باشًا.. رقيقًا كالنسمة.. طيبا عطوفا.. في بدايات حكمه كان أكولًا ولكن بحدود.. دخل لاحقًا في مرحلة النهم.. عندما كانت قاعة الطعام تخلو من الضيوف ويكون بمفرده كان يثرثر معي:
إزيك يا عبده؟.. طول ما مولانا بخير الدنيا كلها بخير.. الناس مبسوطة يا عبده؟.. بيقبّلوا الأعتاب #يامولانا
أذني تعمل قبل يدي وعيني تعمل قبل أذني..أراقب رموش عينيه.. انحناءة أطرافه.. التفاتة عنقه.. بَدْء تحرك أصابع يديه.. أعرف قبل أن ينطق متى أضع طبق اللحوم.. متى أغير نوع السلطة.. متى أرفع الشوربة.. متى أزيد من المكرونة.. لو انتظرته حتى يطلب كان جديرًا بي أن أنسحب من عملي، بل أنسحب من الحياة كلها.. عقب أن رزقه الله بابنته الأولى، وزعوا علينا الهبات #في_القصر، ولكننى عندما رأيته في العشاء بعد عودته قبّلت يده
وقلت: ربنا يحفظ سمو البرنسيس.. ضحك بصفاء قائلًا: شد حيلك أنت كمان يا عبده، ده أنت أكبر مني بأكتر من عشر سنين يا راجل.. لم أستطع أن أمنع نفسي من البكاء الشديد.. انزعج مولانا.. تغير وجهه.. سألنى: مالك؟.. أجبته مندهشًا: #مولاي_يعلم أنني لم أنجب بعد؟ مولاي يهتم بي لهذه الدرجة؟.. ضحك من جديد وأخرج من جيبه خمس ورقات كل واحدة بعشرة جنيهات
وعاد يقهقه قائلًا: الملك الذي لا يعرف تفاصيل حياة أقرب الناس إليه كيف له أن يعرف تفاصيل حياة ثمانية عشر مليونًا من رعاياه؟!
في العام التالي رزقني الله بابنى فؤاد، وبعدها بعامين بابنتي الأخيرة فاطمة.. وفي المرتين كان جلالته يعرف.. يصافحني ويخرج من جيبه هدية المولود
عندما كانت #الحرب_العالمية الثانية مشتعلة، زار مولانا سواحل البحر الأحمر.. صاحبته كعادتي في مرسى حلايب.. اصطاد جلالته طيورًا شهية المذاق.. جلس على الأرض ليأكل منها، وقبل أن يأكل اطمأن أننى وجميع المرافقين لنا فيها نصيب.. زرت معه في نفس الرحلة جبل علبة وشلاتين والغردقة.. طُفت معه العالم كله.. لم تعد المسألة مجرد أكل عيش واسترزاق، بل أصبحت مسألة روح واحدة متوزعة على جسدين
كلكم يعلم ما حدث في يوليو 52.. صاحبته إلى الإسكندرية، وعندما كنت أتسلل إلى #المحروسة رآني.. ارجع يا عبده عيالك لسه صغيرين.. بكيت بحرقة.. نهنهت كالأطفال.. تشنجت.. ارتميت تحت قدميه.. توسلت إليه أن أبقى معه.. ارجع لعيالك يا عبده.. سحبني الحرس.. عدت إلى القصر.. تقدمت باستقالتي التي وقع عليها اللواء نجيب.. وودعت القصر.. وودعت مولانا
– سيرة #عبدالمتعال_أفندي باشري السفرجي الشخصي للملك فاروق، وهي مستمدة ومستوحاة من مجموعة من الوثائق الخاصة بيه، ونشرتها جريدة المصري اليوم في سبتمبر 2018😞😞

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى