جمال محمد غيطاس يكتب :رئيس الوزراء: منصب أوسع من القدرات … وأداء لرجل تنفيذي بيروقراطي لا سياسي رجل دولة

تابع تصريحات وكلمات السيد رئيس مجلس الوزراء، وستلاحظ بسهولة أن الكثير منها لا يجب مطلقا ان يصدر عن رجل دولة في منصبه الرفيع والحساس، كونها كلمات وتصريحات تضعه في موضع الموظف التنفيذي البيروقراطي الاعتيادي، ذي النظرة الرأسية الضيقة التي تضرب في التفاصيل الصغيرة للأشياء، لا موضع السياسي رجل الدولة، ذي النظرة والرؤية الأفقية العريضة الرحبة، التي تنطلق من القيم الإنسانية والدستورية العليا، و تعي مقتضيات التعامل مع الشعب ومواطنيه، على اختلاف تنويعاتهم الاجتماعية والتعليمية والمعيشية والفكرية والعمرية.
……………
خذ عندك:
1ـ يوم الخميس الموافق 27 يوليو2024،نقلت عنه الصحف والمواقع الالكترونية قوله:(بشكل علمي بحت، فإن المشروعات الكبيرة التي قامت بها الدولة في قطاع الكهرباء، قد مكنتنا اليوم من الوقوف على أرض صلبة في هذه الأزمة، وبدون تلك المشروعات كنا سنواجه وضعاً عكسياً، فبدلاً من كوننا نواجه اليوم انقطاع الكهرباء لعدة ساعات يومياً فقط، كانت القدرات المتوافرة دون هذه المشروعات لن تسمح بوجود الكهرباء سوى لعدة ساعات، ليمر باقي اليوم بلا كهرباء)
ساعتها كان يتحدث عن ازمة انقطاع الكهرباء، فجاء هذا النص الذي ينضح بنظرية “المن والسلوى” تجاه الشعب، ويبتعد عن عقلية “رجل الدولة” بمعناها الاحترافي والإداري المحض، ويقع في “مطب” التنفيذي الأقل مستوى، والاضيق أفقا.
فحديث من هذا النوع يكون مقبولا عندما يصدر عن فني أو مختص في وزارة الكهرباء، على مستوى مدير إدارة أو مدير قطاع على الأكثر، يكون ــ بحكم مسئوليته وتخصصه ونطاق ومستوي صلاحيات ــ مفصول تماما عن السياق المجتمعي العام بأبعاده الدستورية والقانونية والسياسية والتخطيط التنموي بمفهومه الشامل.
أما السيد رئيس الوزراء، فلا يناسبه هذا الحديث مطلقا، بحكم صلاحياته ومسئولياته الدستورية والقانونية ودوره السياسي، فمن المعروف أن قطاع الكهرباء من القطاعات الحيوية التي يتعين أن يكون لديها خطة استثمارية دائمة محكمة وبالغة الدقة، يتم تحديثها علي مدار العام، فيما يتعلق بإدارة الطاقة بالبلاد، ومعدلات استهلاكها الحالية والمستقبلية علي المدي المتوسط والبعيد، والمفترض أن تدرس هذه الخطة على نحو دقيق، كل من معدلات النمو السكاني وما يفرضه من زيادة مستمرة مضطردة في معدلات الاستهلاك، وخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية بقطاعات الدولة الأخرى كافة، وما تحتاجه من طاقة.
بناء على الاستنباط الدقيق لما يفرضه النمو السكاني من زيادة في الاستهلاك، وما تحتاجه خطط التنمية الشاملة من طاقة، توضع الخطة الاستثمارية الحيوية للقطاع، بحيث تحدد عدد ونوعية وقدرات محطات التوليد الجديدة المطلوب إضافتها، ونطاق تنفيذها زمنيا واحتياجاتها المالية والفنية، ومواعيد دخولها الخدمة، في توقيتات مناسبة، لا تجعل هناك فجوات في الانتاج ينجم عنها اختناقات في الاستهلاك، ولا تجعل هناك فوائض في الإنتاج تولد طاقة مهدرة بلا طائل، هذا بطبيعة الحال جنيا الي جنب مع خطط صيانة وتأهيل المحطات القائمة.
في كل بلاد الدنيا تعد هذه الخطة من أهم أعمدة ” تفكير وأداء الدولة”، إلي جانب الخطط الحيوية المماثلة في قطاعات البنية التحتية الأخرى، كما تعد في الوقت ذاته من أهم مؤشرات قياس عقلية “رجل الدولة” في أي من هذه القطاعات، والمقصود بعقلية رجل الدولة، تلك العقلية التي تفكر وتعمل بالطريقة التي تتناسب مع دور الدولة في إدارة موارد وطنها ومجتمعها، على النحو الذي يحقق التزامات الدولة تجاه الشعب، باعتبار الأمر واجب مبدئي، أو مهمة أولية، لا يصح ان يستمر المسئول في منصبه، أو يتولاه من الأصل إذا لم يكن واعيا بها أو لم يكن قادرا علي القيام بها.
………………………
2 ــ يوم 9 أكتوبر الماضي تحدث حديثا ربط فيه بين الازمات الداخلية والأزمات الدولية والاقليمية وبين التفكير في التحول الي اقتصاد الحرب كمخرج من الازمة الحالية التي تمر بها البلاد، وبالمنطق البسيط لعلم الاقتصاد السياسي يمكن القول أن السيد رئيس الوزراء كشف مجددا في هذا التصريح عن عقلية وأداء التنفيذي البيروقراطي الأقل رتبة من مستوي رئيس الوزراء، لأنه بالمنطق السياسي البسيط، الحرب وسيلة لتنفيذ رؤي السياسة والاقتصاد عن طريق العنف والقتال الذي يتعين معه اعداد الدولة للحرب، والمقصود هنا هي الحرب الهجومية بالمعني الحرفي للكلمة، لأن الحرب الدفاعية لها شأن آخر ومنطق آخر، يفرض أن تكون الدولة مستعدة لها طوال الوقت، دون العيش أو الدخول في حالة اعداد الدولة للحرب، وإلا ما فائدة الدول والجيوش إن لم تستطع أن تجعل الاقتصاد يعمل في حالته الطبيعية، وتكون الدولة في الوقت نفسه مستعدة للدفاع عن حدود وطنها في أي لحظة؟
تصريح رئيس الوزراء يعني أن الدولة بكاملها علي حافة مرحلة في غاية الخطورة ولا يعلم عنها الشعب شيئا، مرحلة قوامها تنفيذ رؤاها السياسية والاقتصادية بالحرب والقتال، لكن سيادته لم يحدد لا بالضبط من سنحارب لكي نحقق رؤانا الاقتصادية والسياسية، هل سنحارب انفسنا، أم الصهاينة في الشمال ومعهم الغرب بكامله، أم الاحباش في الجنوب ومعهم داعميهم من العرب الصهاينة شرقا، أم اشقاءنا الليبيين في الغرب، أم ان لدي رئيس الوزراء خطة لإرسال كتيبة للحرب في المكسيك أو قوات محمولة بحرا إلى جزيرة القرم على غرار ما فعل محمد علي قبل اكثر من قرن ونصف من الزمان؟ ثم: إذا بدأنا الحرب هل سنكون قادرين على إنهاؤها في الوقت الذي نريد؟
لو عاد السيد رئيس الوزراء لوثائق حرب اكتوبر سيجد أن المصطلح أو التعبير المستخدم فيها هو “اعداد الدولة للحرب” وليس “التحول لاقتصاد حرب”، ما يعني ان سيادته استخدم مصطلحا مخالفا وغير دقيقا، ولم تقره أو تطبقه الخبرة الوطنية الناجحة المبدعة المنفذة في اكتوبر 73، ما يدلنا مجددا علي أننا إزاء حديث مسئول تنفيذي من المستوى الأدنى من مستوى رئيس الوزراء يقينا.
……………………….
3 ـ يوم الجمعة الماضي الموافق 11 مايو 2025 نقلت عنه الصحف أن لدي حكومته اتجاه لإضافة اسم الأم لبطاقة الرقم القومي منعا لتشابه الأسماء، وهنا عاد السيد رئيس الوزراء للهبوط من مرتبته ومنصبه الرفيع كرئيس وزراء، للحديث عن قضية فنية تقنية قبل ان تكون سياسية أو اقتصادية عامة، وتبوأ فيها منصب محلل النظم أو محلل الاعمال في فريق عمل داخل مشروع تنمية معلوماتية شديد التخصص.
وتقديري أن تركه مستواه السياسي الاقتصادي الفكري الرفيع، وهبوطه اللامنطقي الي المستوي الأدنى المتخصص أوقعه في منزلق ليس خطرا عليه فقط، ولكن علي الأمة بكاملها، فالرقم القومي كما تابعت خطوات العمل به بدءا من العام 1984 ـ وكان العمل ساريا به قبل ذلك ـ قام علي فكرة جوهرها الأساسي ومكمن صلاحيتها الرئيس إن لم يكن الوحيد، هو بناء أداة تعريف متفردة غير قابلة للتكرار او الشك، لهوية جميع المواطنين الذين ولدوا منذ الأول من يناير 1800، سواء كانوا احياء او أموات أو سيولدون بعد ذلك إلى ما شاء الله، بحيث يكون كل من يحمل هذه الأداة ــ وهي الرقم القومي ـ تتحدد علي الفور هويته وتتميز وتفرز فرزا غير قابل للشك عن جميع هويات المواطنين الآخرين، الموتى والاحياء ومن سيولدون بعده.
ان يأتي رئيس الوزراء ويطلق هذه التصريح فائق الخطورة، قائلا سنضيف اسم الام لبطاقة الرقم القومي، منعا لتشابه الأسماء، فهذا معناه تلقائيا أن الرقم القومي كأداة تعريف للهوية فقدت قدرتها علي تمييز وفرز هوية المواطن بصورة غير قابلة للشك، وهذا نسف لفكرة الرقم القومي من الأساس، تضرب دقة وحصرية وسلامة المعلومات المدنية والشخصية المسجلة لدي مؤسسات الدولة المعنية لكل من ولد علي ارض الوطن منذ العام 1800 وحتي الآن، يشمل ذلك معلومات قاعدة بيانات الرقم القومي الام لدى مصلحة الأحوال المدنية، ومئات من قواعد البيانات المستندة للرقم القومي في الجوازات والجمارك والشهر العقاري وقواعد البيانات الأمنية والتأمينات والقوى العاملة والتعليم والصحة وغيرها.
لا أتصور أن هناك مخلوق داخل مؤسسات الدولة يعي الابعاد فائقة الخطورة لهذه القضية يمكن أن يتجرأ في الحديث عنها بهذه الطريقة التي تفكك العلاقة بين الرقم القومي وتفرد الأسماء، ويعلن ذلك صراحة، لا يحدث ذلك إلا من مسئول هبط على الأمر بالباراشوت دون أن يلم بأساسياته وابجدياته، ومخاطر الحديث عنه علنا بهذه السهولة.
…………………………..
4ـــ قبل يومين جلس معلقا على الاحداث بالمنطقة والعالم، وبدلا من أن يقدم حديثا مؤسسيا يناسب رجل دولة بمستوى رئيس وزراء لديه مسئوليات دستورية ووطنية، فيعرض التكليفات التي أصدرها لمؤسسات الدولة كى تعمل على وضع أكبر عدد من السيناريوهات المدروسة للتعامل مع حزمة الاحتمالات المتوقع حدوثها، مهما كان تنوعها وتعقيدها أو غموضها، ترك ذلك وهبط الى مستوى المعلق او الخبير الذي يعرض أفكاره متحللا من كل مسئولية رسمية، تعي وتدرك تأثير كلماته علي الشعب الذي يحمل مسئوليته علي كتفيه، فقال بمنتهي السهولة والبساطة: ” أن الحالي هو ظرف شديد التعقيد وشديد الاضطراب، وأنه لا أحد يستطيع التنبؤ بما سيحدث غدًا”.
هنا يبدو السيد رئيس الوزراء وكأنه يصدم الشعب بأن حكومته ذاهلة الذهن، مشلولة العقل، مرتعشة الأيدي، مرتبكة الأداء، وليس لديها ما تفعله، وكأنه يسقط عنها القدرة على الاطلاع بمسئوليتها الوطنية والدستورية في قيادة الوطن تجاه هذا الظرف.
…………………………….
كل ما سبق أمور على سبيل المثال لا الحصر، تجعل المرء ينتهي الي نتيجة اعتقد أن شريحة واسعة من المواطنين باتوا يعونها ويدركونها، كلما لسعتهم الأسعار، أو قضمت سياساته قضمه من كرامتهم ومستقبلهم، وهي أن المنصب أوسع من قدراته، واعقد من خبراته، وأثقل من كاهله، وتقديري أنه بات عليه إعادة النظر فيما يقوله ويهبط به من مرتبته ومسئولياته، وإن لم يستطع فالمنطق في هذه الحالة يقول ان الأجدر به أن يستريح ويريح.