بين بوح الذات وغياب الآخر: قراءة نفسية – نسوية في نص إيمان خالد…أ.فضل صالح

*بين بوح الذات وغياب الآخر: قراءة نفسية – نسوية في نص إيمان خالد*
*مقدمة*
يتّسم نص الكاتبة *إيمان خالد* بحساسية وجدانية مرهفة وصوت أنثوي نابض، يتدفق من عمق تجربة شعورية متوترة بين قطبي الحنين والفقد. تنتمي لغته إلى الحقل الشعري أكثر من النثري، حيث يتبدى خطاب ذاتي صريح، يكشف عن مكامن الألم، ويُجهر بما اعتاد أن يُكتم. في هذا الإطار، يتأسس النص بوصفه مساحةً للتعبير الذاتي العميق، ويندرج ضمن ما يُعرف بكتابة البوح، وهي كتابة تتقاطع مع الذات الفردية والأنثوية، وتُستجلى من خلال منهجين رئيسين: التحليل النفسي، والنقد النسوي، مع استئناس بمفاهيم جمالية التلقي.
*أولاً: القراءة النفسية للنص*
يفتتح النص بعبارة: “ينتهي الشتاء الذي يقال عنه فصل الحنين ولا ينتهي شوقي معه” وهي عبارة تؤسس لما يمكن أن يُسمى بالزمن النفسي أو الداخلي، ذلك الذي لا يخضع لحركة عقارب الساعة، بل ينبثق من عمق الوجدان، ويتأثر بالمشاعر والانفعالات. ويصف الناقد *شارل مورون* هذا النمط من الزمن بقوله: “إن الزمن النفسي زمن خاص، تخلقه الذات ولا يخضع لقياس خارجي”(1).
ويظهر أثر هذا الزمن النفسي في قول الساردة: “تتعطل ساعتي في غيابك وتتساوى عندي فصول السنة، وتصبح حياتي عبارة عن يوم يتكرر كل يوم” وهو ما يمكن ربطه بما يشير إليه *جاك لاكان* في تحليله للحالات الصادمة، حيث “يتوقف الزمن عند لحظة الصدمة، ويظل الإنسان أسيرًا لها” (2).
وفي قولها: “هل تعلم ما هي المتعة الحقيقية في معاناتي؟ أنك أنت سببها!”، نرصد ما يُعرف في التحليل النفسي بالمازوشية، إذ يرتبط الألم باللذة، ويتحول العذاب إلى لحظة شعورية تمنح نوعًا من الامتلاء. يقول *فرويد* : “في المازوشية، لا يكون الألم غاية في ذاته، بل وسيلة للحفاظ على العلاقة بالآخر”(3).
أما العبارة: “أتأرجح بين طيفك واحتضانه، وبين سقوطي في حفرة الواقع الأليم”, فتدل على الصراع بين الوعي واللاوعي، أو بين الخيال والواقع. ويعلّق *كارل يونغ* على هذه الحالة قائلاً: “الصراع بين الأنا والظل هو جوهر الحياة النفسية، ومحرك التوتر الإبداعي”(4).
ويحضر البعد الروحي أو الديني في النص من خلال العبارة: “وجدتني أدعي في كل سجدة: اللهم زدني به حبًا”. وهذا يوحي بحالة من الإزاحة النفسية، إذ يُعاد توظيف المقدس بوصفه وسيلة لتكريس العاطفة لا للتحرر منها. ويصف *إيريك فروم* هذا النمط بقوله: “في بعض الحالات، يُستخدم الدين لتثبيت التعلّق، لا لفكّه”(5).
*ثانيًا: القراءة النسوية للنص*
من الواضح أن النص يتبنى منظورًا نسويًا ذاتيًا، إذ تتحدث المرأة عن تجربتها من موقع الفاعلية لا التبعية. فالمرأة هنا لا تُعرّف ذاتها من خلال الرجل، بل من خلال علاقتها بذاتها وصوتها وذاكرتها. وتشير الباحثة *سيمون دي بوفوار* إلى هذا المعنى بقولها: “ليست المرأة كيانًا ناقصًا، بل وجودًا له منطقه وتاريخه وشروطه”(6).
الكتابة في هذا النص لا تظهر كفعل جمالي فقط، بل كفعل مقاومة ونجاة. فاللغة تتحول إلى “بيت داخلي”، وهو ما تسميه *هيلين سيسو* بـ”كتابة الجسد”، حيث تُنتج المرأة خطابها من رحم معاناتها الخاصة(7).
ويتجلى تمسك الساردة بهويتها الأنثوية في رموز واضحة مثل: تغيير لون الشفاه، قص الضفيرة، ورفض الزواج القائم على بديل للرجل الغائب.
وكلها مؤشرات تؤكد أن المرأة هنا لا تعيش في ظل الرجل، بل في ظل ذاتها، وتمارس قراراتها بحرية نسبية.
ومن اللافت أيضًا تفكيك صورة الرجل بوصفه محورًا للعاطفة. فغيابه في النص لا يُعد فقدًا مطلقًا، بل يصبح فرصة لبلورة الذات ونموها. وتوضح *جوديث بتلر* هذه الفكرة بقولها: “الغياب ليس نقيضًا للحضور، بل لحظة ولادة للذات خارج سلطة الآخر”(8).
من زاوية جمالية التلقي، فإن النص لا يخاطب المتلقي بوصفه كيانًا خارجيًا، بل بوصفه شريكًا شعوريًا. وهذا ما يؤكده *هانس روبرت ياوس* حين يقول: “تتجدد قيمة النص الأدبي من خلال أفق توقعات القارئ وتفاعله مع التجربة المعروضة”(9).
لا يقدّم هذا النص لحظة بوح أنثوية معزولة، بل يعكس لوحة نفسية وجمالية مكتملة، تتقاطع فيها أزمنة النفس، وصراعات الذات، وتمردات الهوية. ومن خلال المزج بين التحليل النفسي والقراءة النسوية، يتضح أن *”إيمان خالد”* لا تكتب لتروي قصة فحسب، بل لتعيد تشكيل عالمها الخاص، واستعادة ذاتها عبر الكتابة. فالغياب هنا ليس نهاية، بل مدخل إلى كتابة جديدة، وإلى بوح أكثر إنسانية.