رؤي ومقالات

شريف يونس يكتب :كل الشعوب المهزومة، أو التي تتعرض لمصائب،

منذ أن آمن البشر بالأرواح الخفية للطبيعة فيما قبل التاريخ ثم الاعتقاد بالآلهة، وحتى الآن، كانت هذه الأرواح أو الآلهة أو الإله الواحد تُعتبر متدخلة في حياة البشر، وتحدد مصائرهم، إما كليا أو جزئيا (بأن تكون الأرواح أو الآلهة متخصصة في المطر والرعد أو في الزراعة أو الإنجاب، إلى آخره). فبغير هذا الاعتقاد بأن الأرواح أو الآلهة تسلك عن وعي، وأنها يمكن أن تغير تصرفاتها لن يكون هناك مبرر للتضرع إليها أو تقديم القرابين لها أو إرضائها بصورة أو بأخرى. من المفترض بالتالي أن الشعوب التي تتمسك بالولاء للأرواح أو الآلهة أو الإله المعنى أن تنال مكافأة إلهية تتمثل في يُسر أحوالهم.
وبناء عليه، كل الشعوب المهزومة، أو التي تتعرض لمصائب، تشك في آلهتها، وقد تتمرد عليها. وفي العصور الوسطى الأوربية كان الفلاحون حين يصادفون محصولا سيئا بسبب اضطرابات الجو (قلة المطر أو كثرته مثلا) قد يصل بها الأمر إلى جَلد تماثيل أو صور القديسين، لعدم تدخلهم لصالحهم لدى الإله الذي يُسيِّر شئون العالم، دون أن يجرأوا على الكف ر بالمسيحية نفسها. وقد تنشأ من جراء هذه الكوارث مذاهب جديدة، ترى أن البشر هم المسئولون لأنهم يتبعون عقيدة منحرفة يجب إصلاحها. ولكي تحافظ المؤسسات الدينية القائمة على هيمنة تصوراتها الدينية، فإنها تقلب المائدة في وجه الشعوب وتقول إنها هي المسئولة لأنها لا تطيع بالدرجة الكافية، أو أنها لا تخلو من فساد. وبالتالي لا عيب في الدين والمذهب، ولا في المؤسسة الدينية، بل الحل يكمُن على العكس في أن يخضع المؤمنون لهذه المؤسسات مزيدا من الخضوع. وبهذه الطريقة يتخذ الصراع الاجتماعي طابعا دينيا، أو يلبس قناعا دينيا يحتل فيه رجال الدين المقدمة على جميع الجبهات المتصارعة.
بهذا المنطق، تكون الشعوب الأكثر تقدما والأقل معاناة والمنتصرة أو المهيمنة هي فقط التي تتمتع فعليا بعقيدتها الدينية، لأن توقعاتها تتحقق ولا تجد نفسها في المأزق المذكور في الفقرة السابقة. وهنا يحدد طموح الشعب ودوره الواقعي في العالم الطموح الإلهي، وهو ما يمكن أن نجد مثالا جيدا له في اللحظة الحالية من الصراع في منطقتنا.
الانتصارات الإسرائيلية المتلاحقة تعزز بلا شك الفكرة الدينية عند المتدينين اليهود المؤمنين بالصهيونية (وليس عند المتدينين رافضي الصهيونية بطبيعة الحال). لكن حدود هذا الانسجام محدود بمحدودية المشروع الصهيوني نفسه، فهو لا يزيد عن تأمين إسرائيل وربما توسيعها قليلا، وربما حتى طرد الفلسطينيين، ودُمتم. هذا أقصى طموح ممكن لـ7 ملايين يهودي إسرائيلي. أما الشعب الذي يتمتع بإيمانه إلى الحد الأقصى فهو بطبيعة الحال شعب الولايات المتحدة، باعتبار أنها القوة الأولى المنتصرة (رغم هزائمها في فيتنام وأفغانستان وغيرها). لكن ما يميز “هناء العقيدة” الأمريكية هو أنها فضفاضة جدا، تقوم على شرعية جميع الأديان، وبالذات الطوائف المسيحية المختلفة التي تشكل في مجموعها أغلبية كبرى، لكنها مفتتة إلى عشرات الكنائس الكبيرة والصغيرة. وبذلك يستطيعون جميعا أن يؤمنوا بأن أمريكا لها رسالة إلهية، وأن الرب يحفظها. كما تشمل هذه الرسالة الدفاع عن حرية العقيدة الدينية في العالم كله، وبالذات عدم تعرض الطوائف المسيحية للاضطهاد، بما يمنحها بُعدا عالميا مسيحيا، ومع ذلك متجاوز لأية عقيدة كنسية بعينها من العقائد المسيحية العديدة. فالوضع الإمبراطوري غير المباشر (أي بغير سيطرة على الأراضي الأجنبية بشكل مباشر) متفق مع الرؤية الدينية العالمية، التي تتسع للدفاع عن حرية أصحاب الأديان الأخرى.
الجميع يتصور، بل ويشعر مباشرة، بمأزق الإسلام السياسي هنا بسبب الهزائم المذكورة من قبل، لكن هذا ربما في حاجة إلى بوست منفصل. لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن الثقافة البوذية تجاوزت منذ نشأتها هذا التصور عن قوي عليا (أرواح، آلهة) تدير شئون العالم ويمكن استرضاؤها لكي تتصرف بما يناسب المؤمنين. فهي تتصور العالم كدائرة تفاعلات شاملة لها منطقها وما يمكن أن نسميه آليتها الأخلاقية الخاصة، وبالتالي التقوى تكمن في إدراك هذا المنطق وهذه الآليات والانصياع الطوعي لطبيعتها الأخلاقية، لأن من يشذ عن الناموس سيعاقبه الناموس على نحو أو آخر (لذلك يرى البعض من أصحاب ثقافة البحر المتوسط وامتداداتها في أوربا والأمريكتين أن هذه ليست ديانة وإنما فلسفة، وهو تصور لا يتلاءم مع الواقع).
هذا الاختلاف الجوهري يخلق صعوبة في التفاهم بين الصينيين والشعوب المتأثرة بأديان البحر المتوسط. لكن ما يعنينا هنا هو أن هذا التصور الديني (المتغلغل في الثقافة حتى عند غير المتدينين) لا توجد فيه فكرة استرضاء إله واحد أو آلهة متعددة لكي تغير مسار العالم لتحقق مصالح المؤمنين أو لتنصرهم. وبالتالي المسئولية عن الفشل أو النجاح أو الهزيمة أو الانتصار مرتبط بتقوى تجاه الطبيعة ونُظُمها، تقوى مرتبطة بالفهم. وعلى هامش البوست الذي طال أكثر من اللازم، لعل طبيعة الماركسية التي هي فلسفة ترى نفسها موضوعية وشاملة في الوقت نفسه، كان من السهل نسبيا تبنيها في ثقافة من هذا النوع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى