كتاب وشعراء

كوما” كتابة اللاوعي في مواجهة الذات -قراءة نفسية في نص للدكتورة صوفيا الهدار.. أ.فضل صالح .

بنك القطيبي بنك الشمول بن علوي للصرافة مدينة الخليج العربي ناصر العفيفي البسام للصرافة قصور عدن الطيار
للكاتبة صوفيا الهدار أسلوب خاص، وفريد يجعل من الكتابة مرآة داخلية تعكس اضطرابات النفس قبل أن تحكي وقائعها. فهي لا تكتب لتروي أحداثًا، بل لتغوص في المسكوت عنه في الإنسان: التردد، الحيرة، الخوف، اللا وعي، والذنب المدفون. في نصها “كوما” لا تتحدث صوفيا الهدار بلسان الراوي فقط، بل تكتب بلسان اللاشعور وهو يُنصت إلى نفسه.

تبدأ الحكاية كما لو كانت مشهدًا عابرًا من الحياة اليومية، طريق مألوف، أطفال يلعبون، سقف وطفل يسقط… غير أن هذا الترتيب العادي سرعان ما ينكسر. فثمة شيء خفي ينمو داخل السرد: التباس في الهوية، خلل في الزمن، اضطراب في الإدراك. لا نعلم أين الراوي؟ ولا من يكون؟ ولا كيف أصبح مشاركًا في مشهد مأساوي لا يفهمه؟

وهنا تبدأ اللعبة النفسية.

الراوي يستخدم الكوما –حالة الغيبوبة – كاستعارة للانفصال عن الواقع، وكوسيلة للدخول إلى أعماق النفس، إلى البقع المعتمة التي لا يزورها الإنسان إلا تحت ضغط السؤال الوجودي: من أنا؟

في غرفة العناية المركزة، الراوي لا يسعف طفلًا فحسب، بل يواجه طفولته هو نفسه. ملامح الطفل الغائب عن الوعي، نظراته، الخوف في عينيه، كلها تستدعي ذكرى لا يريد أن يتذكرها. وفي لحظة انكشاف داخلي عميق، يكتشف أن هذا الطفل هو نفسه، في طفولة بعيدة، غامضة، لكنها ما زالت حيّة في داخله.

ويتصاعد التوتر حين يربط الراوي –أو لنقل “الذات التي تحلل ذاتها”– بين هذا الطفل الذي كان، وذلك القاتل الذي صار. وهنا تبلغ الأزمة النفسية ذروتها: هل ما بين الطفل والقاتل نقطة تحول واحدة؟ هل يمكن لطفولة عادية أن تُنتج مجرمًا؟ أي شيء ضاع في الطريق؟ ومتى؟ ولماذا؟

السرد هنا لا يبحث عن تبرير، بل عن فهم. الراوي لا يسعى لأن يغفر، بل فقط ليفهم كيف انتهى به المطاف في هذا التمزق: بين من كان، ومن أصبح، وبين من يريد أن يكون. والسؤال القاسي الذي ينفجر في وجه المتلقي قبل أن ينفجر في رأس الراوي هو: هل يستحق أن يعيش؟ هل من حقه أن يمنح نفسه فرصة جديدة بعد ما فعل؟

تتجلى عبقرية “صوفيا الهدار” في هذه اللحظة بالذات. فالصراع لم يعد فقط خارجيًا بين شخص وشخص، بل داخليًا بين الذات وذاتها.

اليد الممدودة لقناع الأكسجين لم تعد يدًا تسعف، بل يدًا تمنح أو تحرم الحياة. القرار لم يعد بسيطًا. هل نمنح أنفسنا فرصة ثانية إن كنا نحن السبب في الألم؟ وإن كنا نحن الجلاد والضحية في الوقت نفسه؟

ينتهي النص على تخوم الغيبوبة، حيث تذوب الحدود بين الحلم والحقيقة، بين الماضي والحاضر، بين الصوت الداخلي والأوامر الخارجية. فكما تتقاطع الوجوه والذكريات، تتقاطع أيضًا أسئلة المصير والإرادة، والندم والاختيار.

“كوما” ليست مجرد نص أدبي، بل تجربة نفسية كاملة، كتبتها صوفيا الهدار بلغة تتسم بالعمق النفسي، والتكثيف الشعوري، والتصعيد الدرامي الذي لا يحتاج إلى فعل خارجي، بل يكفيه أن يتحرك في قلب الإنسان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى