رؤي ومقالات

إبراهيم نوار يكتب :فساد منطق الحرب التجارية

أوضح بوزين، رئيس معهد بيترسون للدراسات الاقتصادية الدولية، أن إدارة ترامب تعتقد أنها تمتلك ما يُطلق عليه أساتذة نظرية الألعاب game theory “هيمنة التصعيد” escalation dominance في مواجهة الصين وأي اقتصاد آخر تعاني من عجز تجاري ثنائي معه. وتعني “هيمنة التصعيد”، على حد تعبير تقرير صادر عن مؤسسة راند، أن “الطرف المهاجم تكون لديه القدرة على تصعيد الصراع بطرق تُلحِق الضرر بالخصم أو تُكلّفه الكثير، بينما لا يستطيع الخصم فعل الشيء نفسه في المقابل”. إذا كان هذا المنطق صحيحًا، فإن الصين وكندا وأي دولة أخرى تُعارض الرسوم الجمركية الأمريكية تُخاطر بتحمّل خسائر فادحة.
ويرد بوزين بأن هذا المنطق خاطئ: فالصين هي من تمتلك هيمنة التصعيد في هذه الحرب التجارية. حيث تحصل الولايات المتحدة على سلع حيوية من الصين، لا يُمكن استبدالها في أي وقت قريب أو تصنيعها محليًا بأقل من تكلفة باهظة (المثال الأبرز حاليا الذي يشار إليه هو أن تكلفة إنتاج جهاز الآيفون بالكامل في أمريكا تقفز إلى أكثر من ثلاثة أمثال متوسط تكلفة الإنتاج في الصين). وقد قد يكون تقليل الاعتماد على الصين سببًا للتحرك.
ويؤكد بوزن أن خوض الحرب التجارية الحالية قبل الاستعداد بالبدائل هو وصفة لهزيمة شبه مؤكدة، بتكلفة باهظة. أو باستخدام معكوس لتصريح أطلقه سكوت بيسنت وزير الخزانة الأمريكي فإن “واشنطن، وليست بكين، هي التي تراهن بكل شيء على جهة خاسرة.” كذلك فإن منطق إدارة ترامب يقوم على فرضية على أنه كلما زادت وارداتك، قلّت المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها! ولأن الولايات المتحدة تعاني من عجز تجاري مع الصين، حيث تستورد سلعًا وخدمات صينية أكثر مما تستورده الصين من السلع والخدمات الأمريكية، فإنها طبقا لتلك الفرضية تكون أقل عرضة للخطر.
ويقرر بوزن ان هذا خطأ واقعي، وليس مسألة رأي. فحظر التجارة يُضعف الدخل الحقيقي للدولة وقدرتها الشرائية؛ فالدول تُصدّر سلعا وخدمات لكسب المال اللازم لشراء سلع لا تملكها أو باهظة الثمن لتصنيعها محليا. هذا المنطق يجد شبيها له في بعض بلداننا العربية، مثل مصر، حيث يسود اعتقاد قوي بين المصرفيين وصانعي السياسة الاقتصادية بأن الطرف المدين هو أقوى من الطرف الدائن! ومن ثم فإنه يتم التوسع في الاستدانة بواسطة تلك البلدان، وهي غير مدركة لتداعياتها المدمرة على مستقبل الاقتصاد، من حيث إفقادها القدرة على تحقيق التراكم الاقتصادي اللازم لتحقيق النمو في الأجل الطويل.
ويمضي تحليل بوزين إلى بيان أنه حتى في حال الاعتماد على مؤشرات الميزان التجاري الثنائي فقط، كما تفعل إدارة ترامب، فإن ذلك ينذر بالسوء للولايات المتحدة في حربها التجارية مع الصين. ففي عام 2024، بلغت صادرات الولايات المتحدة من السلع والخدمات إلى الصين 199.2 مليار دولار، بينما بلغت وارداتها من الصين 462.5 مليار دولار، مما أدى إلى عجز تجاري قدره 263.3 مليار دولار.
وبقدر ما يتنبأ الميزان التجاري الثنائي بالجانب الذي “سيفوز” في حرب تجارية، فإن الميزة تكون للاقتصاد صاحب الفائض، وليس الاقتصاد الذي يعاني من العجز. وإذا علمنا أن واردات الصين من الولايات المتحدة تتكون أساسا من الغاز المسال واللحوم والحبوب والأعلاف، فإنها تستطيع شراءها من مصادر أخرى بديلة، في حين أن الولايات المتحدة ستجد صعوبة هائلة لتعويض توقف الإمدادات الصينية.
وإذا عدنا إلى سؤال هذا المقال فإننا نقول أن الصين تستطيع أن تعيش بدون الصادرات الأمريكية، وأن 75 في المئة من الاقتصاد العالمي يستطيع أن يعيش من دون ال 25 في المئة التي تسهم بها الولايات المتحدة، حتى وان كان ذلك مع بعض الخسائر. لكن الولايات المتحدة لن تستطيع أن تعيش بغير الصين، وسوف تنكمش إلى حجم بائس جدا، لأنها لن تستطيع تمويل استثمارات كافية لتحقيق مستوى الرفاهية الذي تعيش فيه حاليا، بل إن بؤسها يستفحل عندما نعلم أنه يتعين عليها أولا سداد الديون المستحقة عليها للعالم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى