شريف يونس يكتب :البترودولار

ناس كتير اتكلمت عن البترودولار، اللي هو ارتفاع أسعار البترول في السبعينيات وتأثيرها على عقول المنطقة المحيطة من خلال هجرة أعداد مهولة من المصريين وغيرهم لبلاد الخليج اللي كان معظمها تحت سيطرة ثقافية وهابية، ورجوعهم بقيم متخلفة وتدين شكلي سلفي عموما، ودا كان من أهم مصادر تعزيز “الصحوة”، بالإضافة طبعها لشرا اعتزال الفنانات وشرا المؤسسات الثقافية والترفيهية الخاصة والتحكم في الإنتاج السينمائي من خلال التوزيع، إلى آخره.
لكن أظن أن فيه تأثير تاني مهم للبترودولار والهجرة لبلاد الخليج للعمل ما أخدش حقه من التفكير. وهو تأثيرها على بنية الأسر المصرية (ويمكن غير المصرية). التأثير دا هو إن قطاع معتبر من الطبقة الوسطى المدينية بمختلف درجات تعلمها اتربى من غير أب عمليا.
الأب الغايب لمدد معتبرة كان حالة منتشرة جدا. ولما بيرجع بيبقى صعب يرجع مكانه تاني، خصوصا لو لقى ولاده وبناته دخلوا المراهقة، وبالعكس، ساعات كتير لما يحاول يرجع لمكانه دا بيعمل مشاكل مش بيعوض اللي فات. ومش الفكرة هنا إن الناس غلطانين إنهم سافروا علشان يصرفوا على ولادهم، لأ طبعا، بس دا اللي حصل، والمسألة مش مسألة نشوف مين غلطان ونلومه. المسألة هي تأثير دا العملي.
تيار الصحوة قفز عمليا (بقصد أو من غير قصد) على الفجوة دي، وطرح نفسه كأب بديل، أب بيفرض قيم ومُثل وبيحاسب وبيوجه، وبيبقى ضهر معنوي وسند للأضعف وللأفقر، حتى من غير مساعدات مادية، بتوفير فرص شغل أو مساعدة في الدراسة أو أي سند تاني. وطبعا نفس الحكاية في الأسر المفككة. فوق كدا، الصحوة حولت الإبن نفسه لأب بديل، لمصدر للقيم في أسرته ومحيطه، وادته دور يخليه معتز بنفسه وبيقوم بدور تعويضي تجاه نفسه واللي حواليه.
أهمية دا كمان إنه حصل في وقت كانت الدولة فيه بتتفكك بالتدريج، ومش بتوفر أصلا مجالات للنشاط العقلي والبدني والمساعدة النفسية والإنسانية، بالعكس، كانت بتنسحب وبتحاول تخلي خدماتها بأقل تكلفة بحيث بقت خدمات صورية، وبقت أقرب لنكتة أو مهزلة، مش نموذج محترم يكون هو نفسه مصدر قيمي للشباب.
الجو دا شفته، ويمكن ما اهتميتش قوي بيه وقتها، ويمكن اعتبرت غياب الآباء بيدي الجيل الشاب متسع للحرية. لكن الحقيقة الحرية بتكتسب بالتمرد جزئيا على سلطة أسرية ليها منطق وتماسك قيمي وسلوكي، أو بإن الواحد يكبر ويعرف إن أبوه في النهاية مش نابليون، لكن إنسان له حدود. أما “التحرر” من اللاسلطة، فهو تحرر من الضياع بإلقاء الذات في أقرب مصدر يعوض عن سلطة الأب بسلطة بديلة. هنا البحث بيكون عن سلطة، مش عن حرية.