انعكاس المرآة – بقلم / نجلاء محجوب

انعكاس المرآة..
تتسلّل ساعاتُ الليل عبرَ النوافذ، تراقب حديثَ الغرفةِ المظلمة، يبدو نائمًا، لكن عقلَه ماكينة ورشةٍ تعطّل فيها زرّ التوقّف، ملامحُه باهتة، عيناهُ متعبتان، وصوتُه المبحوح غارقٌ في السكون، وثرثرةٌ لا تهدأ في حجراتِ داخلهِ المتناقض،
البابُ أمامهُ شبهُ مغلق، يسمعُ صدى صوتٍ بعيدٍ يتناثر في هدوءِ الغرفة، لا يعرفُ لمن الصوتُ، الذي يتردّد في الخارج، لكنه متأكدٌ أنه لا أحدَ يعيشُ معه، إذًا لمَنْ الصوت الساخر الذي لا يتوقف عن الضحك..!
كلُّ ما حولهُ يشي بخطرٍ ينتظره بالخارج، لكنّ رغبةً خفيّة كانت تدفعه لاكتشافِ سرِّ الصوت، خطواتُه المترددة نحو البابِ تتباطأ، ودقاتُ قلبهِ تتصاعد، انعكاسُ صورتِه في المرآة، الذي بدا اليومَ غيرَ عاديّ، يقول له: “لا تذهب.”
يهمسُ في نفسه: “أتحدّث هو حقيقة؟”
وقعت عيناه على المرآة القابعة في زاوية الغرفةِ المظلمة، أراد إسكات الصوت الذي يتردد دون توقف، انعكاسه كان واضحًا، لكن ما رآه فيه، كان أعمقَ من مجرد صورته، ارتجف في صمت، حين رآه يرمش قبله، يلتفت قبله، يبتسم دون أن يبتسم هو. ولا يشبهه..!
اندفع بسؤالٍ: – “من أنت؟” فأجابه الانعكاس: – “أنا… أنت.”
اقترب خطوة، وتمادى في أخرى، حتى أصبح قريبًا جدًا، لكنه يرتجفُ في خوف كأنّه سيواجه ما لم يكن يتوقّعه، ثم تراجع خطوة، وعيناهُ تراقبان بصمتٍ، كاد يقتله،
وفجأة… خرج انعكاسه من المرآة، جلس على الكرسي المقابل، وقال بنبرة هادئة: – “قلتُ لك: لا تذهب، لا أحد في الخارج.”
عدّل جلستَه بارتياح، وضع ساقًا فوق الأخرى، وأخذ يدندن بنفسِ الأغنية التي ما زالت عالقةً في ذاكرته منذ الطفولة،
وهو.. سُرِق صوتُه، لا يستطيع الكلام، ينظر إليه بذهول، كاد يفقده عقله،
التفت إلى النور الذي بدأ يتسلّل، وصوتِ طرقٍ على الباب. وجهٌ مألوف، طفلٌ يشبهه تمامًا: – “أبي.. أمي جهّزت الطعام، ما زلتَ تعتقد أنني لستُ حقيقيًا؟ المس يدي، أنا حقيقة يا أبي، هل أعانقك لتُصدّق؟”
اقترب الطفل، واحتضنه، التفّت ذراعان صغيرتان بريئتان حول عنقه، نظر إلى عينيه.. وابتسم.
لكن في اللحظة التي أغمض فيها عينيه ليتذوق لحظة الفرح، شعر بشيءٍ غريب يتسرّب من قلبه، فتح عينيه فلم يجد الطفل، لا أثر له، لا صوت، لا لمسة، الغرفة خالية، والباب ما زال شبه مغلق، وفي المرآة صورةٌ جديدة، انعكاسه واقفٌ، يحدق فيه بعينين فارغتين..!
سمع طرقًا من خلال النافذة، وحين نظر نحوها، سكن الصوت، ابتلع ريقَه بصعوبة، استسلم، وكأنه يختبئ داخل نفسه،
وإذا بالباب يُطرَق من جديد، طرقات متتالية لا تتوقّف…! استدار ببطء، يجرّ قدميه نحو سريرٍ، يزداد بعدًا كلما اقترب. ارتمى بعد معاناة الوصول، واحتضن نفسه،
همس بصوت متعب: – “لا أسمع شيئًا، لا يحدث شيء..
أغمض عينيه، والطرقات تتوالى …
والمرآة.. مفتوحة علىٰ عيونٍ لا تنام..!
نجلاء محجوب