مصطفي الفيتوري يكتب :البابا الليبي …وشلقم وبيتر التكسني

تابعت اليوم جنازة البابا فرنسس وداهمتني الذكريات عن الفاتيكان وروما. كنت زرت ساحة الفاتيكان مرات عديدة واولها كانت في عام 1986 بعد الغارة الأمريكية الغاشمة على ليبيا بأسابيع. فور وصولي الي روما وكعادتي في تلك الأيام أشتريت خريطة المدينة الورقية (لم تكن أيامها النت موجوده) وقصدت الفاتيكان وكان يوم أحد
وهو اليوم الذي يلقي فيه البابا (يوحنا بولس الثاني أيامها) خطبته في قداس الاحد وكانت ساحة القديس بطرس ممتلئة عن أخرها فجلست على الدرج المقابل لشباك البابا. كان يتحدث بالايطالية. لم أكن أفهم اللغة ولكنني كنت مبهور بالمكان وهيبته. كنت قد قرأت الكثير عن الفاتيكان وكيف أنه دولة مستقلة على هيئة مدينة صغيرة وعبره تولد لدي اهتمام
بالكاثوليكية ومعلوماتي كنت أحصل عليها من مجلة مجانية أسمها The Plain Truth أو الحقيقة الصريحة(البسيطة) عترث عليها ذات مرة مرمية في الشارع وما كان مني ألا أن أرسلت في طلبها وصرت أستلمها بالبريد كل شهر (اختفت المجلة مؤخرا وتحولت الي الكترونية- بايخة!) وكانت مخصصة بالكامل للكاثوليكية الا أنها لا تتورع عن أنتقاذ البابا والفاتيكان معه.
على الدرج المقابل لشباك البابا صادف أن كان بجنبي مواطن أمريكي في الخمسينيات من عمره تقريبا وبعد برهة ألتفت الي ومد يده قائل: أنا بيتر هافكر من الولايات المتحدة! وأضاف وكأنك ليبي! أندهشت! سرعان ما تعارفنا وتبين أنه مهندس نفط كان يعمل في ليبيا وقد غادرها بسبب عقوبات المجنون ريغن على ليبيا… كان بيتر من ولاية تكسس ولهذا قال يمكنك مناداتي بيكر (التكسني) نسبة الي الولاية…وأضاف مازحا ليس التكسي! كان بيتر من المؤمنيين الحقيقين بالكاثوليكية ولكنه متسامح جدا الا انه أستغرب حضوري لقداس الأحد وأنا المسلم! قلت له أنه شغف قديم أن أحضر هذا القداس وفي الفاتيكان. تواعدنا أن نلتقي في الاحد المقبل في نفس المكان وقد حدث ذلك بالفعل فقد مكتث في زيارتي تلك لروما قرابة الأسبوعين. في حديثنا الممتد عن الفاتيكان والسياسة سألني بيتر قائلا: هل تعلم أن من أوائل البابوات في روما كان من شمال أفريقيا وتحديدا من ليبيا أو تونس ايام كانت تلك البلاد جزء من الأمبراطورية الرومانية! تفاجأت الحقيقة بتلك المعلومة التي لم أسمع بها من قبل! ورسخت في ذهني…وبعد مرور سنوات وأنا في هولندا في مكتبة جامعة ماسترخت خطر ببالي أن أسأل عن اي كتاب عن سنين البابوية الأولى وفعلا أعطاني مسئول المكتبة كتيب صغير ومنه علمت أن بابا الفاتيكان بين عام 189 و199 كان من شمال أفريقيا وأسمه البابا فيكتور الأول! الكتاب من النوادر ولهذا لم يكن مسموح بأن يغادر المكتبة! وفيه أيضا أن البابا ميلتداس الذي تولى البابوية بين عام 311 وعام 315 كان أيضا ليبيا أو تونسيا. وكلاهما كانا من الرواد ولكن اي منهما لم يكن أسود البشرة وغًلب الكتيب أن أصلهما أو أحداهما من بربر شمال أفريقيا!
شلقم….سئ الدكر:
بعد أن تجولت وبيتر في ارجاء الفاتيكان في الأحد التالي أفترقنا وكان مسافرا في الغد وقفلت راجعا الي الفندق وفي طريقي مررت بشارع فيا دي Via dei Condotti. كوندوتي وكان من الشوارع الراقية وقبلة الزوار حيث في نهايته الشمالية تقع الدرجات الأسبانية وهي من المعالم الرئيسي في روما حيث يجلس السواح عليها طيلة فترة العشية وحتى أوائل الليل…قصدت الشارع لأٍستريح على تلك الدرجات وأشرب شئ اذ كان اليوم حارا كما هي روما في الصيف. كنت أيامها مهووس بالتصوير ولا أذهب الي أي مكان بدون الكاميرا من نوع كانون مع زووم مناسب! ما أن وصلت قربة نهاية الشارع مقابل الدرجات الأسباينة حتى أعجبني المنظر وقد قاربت الشمس على المغيب فرفعت الكاميرا وألتقط بعض الصور! وبعد ثواني قليلة وادا بأثنان في ملابس مدنية يمسكان بي أحدهم يميني والثاني يساري ويسيران بي الي سيارة شرطة! لم أكن أفهم ماذا يقولان حتى وصلنا مركز الشرطة وبعد أنتظار (وقد أستولوا على الكاميرا) اخدوني الي غرفة التحقيق. قلت لهم أنني لا أجيد الإيطالية ولكنني أفهم الأنجليزية فقال المحقق لا داعي فلدينا مترجم عربي..هل أنت عربي؟ أجبته نعم فقال لي وأين جوازك؟ قلت في الفندق. وطلب مني تأكيد جنسيتي فأكدت له انني ليبي ثم سألني لماذا ألتقطت تلك الصور وقال: الا تعرف أن السيارة المتوقفة تقف في الزاوية المقابلة دبلوماسية وممنوع تصويرها… تبين أن السيارة كانت للسفير الليبي وقد أتى الي الشارع برفقة زوجته (رأيتهما ينزلان من السيارة ولكنني لم أنتبه أليهما الا بعد أن أخبرني المحقق…الحقيقة لا أعرف من هو السفير ولكنني اعتقدته شلقم…لم اكن أعرف شلقم ولم يسبق أن رأيته في حياتي!
بعد نصف ساعة نقلوني الشرطة في سيارتهم الي الفندق. تبين أنه في تلك الفترة تم أغتيال أحد الدبلوماسيين الليبيين في روما…ولهذا تم تشديد الحراسة حولهم وحول السفارة التي كانت تٌسمى المكتب الشعبي! الشرطة قالوا لي سنعيد الكاميرا وشريطها بعد فحصها …وبالفعل بعد يومين تقريبا أعادوها كما هي وحتى بعض الصورة لم تتضرر في الشريط وللكن صور الشارع والدرجات اختفت وحرصا مني على جولاتي أشتريت كاميرا فورية حتى لا أضيع بعض الأمكان التي أزورها وفي اليوم التالي لتوقيفها عدت
الي ذات المكان
واعدت التقاط الصورة …للأسف أغلب تلك الصور ضاعت أثناء تنقلي من بلد الي أخر.
قبل زيارتي لروما ببعض الوقت كان الرائد جلود (يا ريته قعد رائد) قد زار الفاتيكان وألتقى البابا يوحنا بولص الثاني كما قرأت في الهيرالد تربيون في تلك الأيام في أثينا حيث أقيم…وتبين لاحقا أن البابا اراد التوسط بين أمريكا وليبيا حتى لا يتصاعد الموقف أكثر وبالفعل لعب الفاتيكان دورا في الوساطة وحسب بعض المصادر تسلم مبعوث البابا خودة احد الطيارين الأمريكيين ممن سقطت طائرته فوق خليج السدرة في وقت سابق.
كنت أزور الفاتيكان تقريبا يوما وأقطع مسافة حوالي 5 كيلومترات مشيا على الأقدام لأصل اليه. ما من سبب الا رغبتي في التعلم وأيضا أهتمامي تلك الفترة بأمر الكاثوليك بالذات لغير سبب واضح عدى المعرفة. بعد أن غادرت روما في تلك الأيام لم أعد اليها الا في عام 2021 وكانت برفقتي أبنتي وايضا زرت الفاتيكان ولكن هذة المرة لم يكن شلقم هناك ولم يتم أعتقالي ولم تكن لدي كاميرا ولا خريطة ورقية فالهاتف به كل ذلك وأكثر!
وصورة هذا المنحوت المعدني كان منتصبا في ساحة القديس بطرس وسبق ان تناولته في منشور سابق. لاحظت اليوم ان المجسم اختفى واعتقدت اما ازاحته ليفسح المجال للمعزين.
أحسب للبابا الراحل موقفه من العالم الثالث ومن الفقراء وعلاقته الطيبة بشيخ الأزهر وأحسب للبابا الراحل بولص الثاني موقفه من ليبيا في تلك الفترة العصيبة وأن كنت ألومه على دوره الذي لعبه في أنهيار الإتحاد السوفييتي وكيف ساند الغرب الأمبريالي كثيرا…ربما أكثر مما يليق بمنصبه كونه أنسان أرتضى أن يكون (البابا) وما يترتب على ذلك من ألتزام أخلاقي وديني.
هل من بابا أفريقي الآن؟
بعد البابا فيكتور الليبي وزميله البابا ميلتداس منذ مئات السنين غاب الأفارقة وحتى سواهم من الجنوب العالمي عن البابوية ولهذا اعتقد أن الوقت الآن مناسب لإختيار بابا أفريقي أو من الجنوب العالمي أيان كان. فالفاتيكان لن يكون تقدميا الا بهم وعن طريقهم برغم المواقف الكبيرة والكثيرة لبابوات أخرين لعل أخرهم البابا فرسس رحمه الله… الكاثوليك يشلكون نسبة كبيرة من سكان العالم ولهذا نحن العرب والمسلمين نحتاجهم معنا في قضايا الكبرى مثل القضية الفلسطينية مثلا.