تحليل شامل لقصيدة “من سيعيد ترتيبك” للشاعرة السورية ريم النقري بقلم ..علاء الأديب

تقديم
……….
ليس جديدا على الشاعرة السورية ريم النقري ان تفاجئني بين الحين والحين بنص يستنفر بي الرغبة للتحليل والنقد لما تتصف به من قابلية على التجديد المستمر في كتاباتها فمرة أجدها تتماهى في عالم المحسنات البديعية باستعاراته وانزياحاته ومرة أخرى باسلوبها الكتابي الذي ينتقل بين صور ماتكتبه من لون الى لون حيث الاقتصاد في العبارات او الاسترسال بما يتمم المضمون في معانيه وتارة أخرى في تطويعها نفسيا لخلجاتها بما يتناسب مع تلك الخلجات من أفكار ومعالجات أدبية .
ليس الامر مقتصرا على كل ماذكرت إلا أنها قد تجاوزت في الكثير من الأحيان حدود من وضعوا حدودا في اكاديميتنا ولمصطلحاتنا الأكاديمية فلقد تمكنت في العديد من نصوصها مثلا ان تتجاوز حدود الانزياح لغويا الى انزياحات فكرية مطلقة فقد انزاحت كثيرا بالفكرة لتعبر عن فكرة أخرى وهذا وحده ما يؤكد بأن للشاعرة القابلية على الابداع والتطور السريع في ظل الموهبة البكر التي منحها لها الله تعالى .
هنا وفي هذا النص الجديد توفرت عناصر جديدة دعتني الى تأمل النص بكل مافيه من روعة التحدي والشموخ والتفاؤل الممزوجين جميعا مع الهموم في بوتقة واحدة وذلك التناول الرشيق بين كل تلك المكونات بأسلوب كتابي مضمخ بمحسنات ابداعية ولغوية وكل ذلك من خلال انفعلات نفسية مسيطر عليها شبيهة بانفعلات عازف البيانو الذي يفقد من اعصابه الكثير وهو يداعبها ليسمع الاخرين ما يطربهم من موسيقى قد تفرحهم وقد تحزنهم انها انفعلات القادر على قيادة الانفعال الى سبيل الابداع.
معا لتناول فقرا تحليلنا …
أولاً: التحدي، الشموخ، والتفاؤل في النص
…………………………………………………
يستند النص إلى ثلاثة محاور عاطفية وروحية بارزة: التحدي، الشموخ، والتفاؤل، والتي تشكّل معًا نبرة الصوت الداخلي للمتكلمة.
التحدي: يظهر التحدي في التمرّد على الخذلان، وفي دعوة الذات إلى عدم الانكسار رغم الألم:
“حين تعيد ترتيبهم… تخلّ عن جراحك، وطعنات الخلف…”
الشموخ: تمثّله صور العنفوان والعظمة، مثل الوقوف على قاسيون، أو الانبعاث من رماد الألم:
“أن تهش إطلالة من أعلى هام القلب، كأنك تقف على قاسيون”
التفاؤل: ينبثق من صور الطفولة والنور والابتسامة:
“كطفل بانتظار تكبيرة العيد”، و”ارتد نظاراتك الوسيمة الابتسامة”
إنه نصّ يحتفي بقوة الإنسان الداخلية، في مقابل هشاشة الخارج.
ثانياً: الأسلوب الكتابي والمحسنات اللغوية والبديعية
……………………………………………………………
1. الأسلوب:
أسلوب تأملي ذاتي، ذو نبرة خطاب داخلي.
يغلب عليه الطابع الشعري حتى في النثر، من خلال الصور المجازية وكثافة المعنى.
2. اللغة:
لغة رمزية، غنية بالدلالات النفسية والعاطفية.
استخدام الأضداد (الغياب..الحضور.. الألم..النور) يولّد توترًا جماليًا.
3. المحسنات:
التكرار: “حين تعيد ترتيبهم”، لإحداث إيقاع متواتر وتوكيد دلالي.
الطباق: مثل “جراحك..الحب”.. “الغربة…الفجر”.
الصور الشعرية:
“الكفن المتدلي من صفاء مقلتيك” – صورة تمزج الموت بالنقاء.
الاستعارات: “نشواء نورك البدائية” – تجسيد لحالة التوهج الأول.
ثالثاً: التحليل النفسي للنص
……………………………….
النص يمثل صرخة داخلية لذات مجروحة، لكنها لا تستسلم.
الذات هنا تسعى لاستعادة توازنها عبر ترتيب علاقتها بالآخرين.
تمرّ بمرحلة تطهّر نفسي: من جراح الماضي، ومن وطأة الخيبات.
يوجد في النص ميل واضح للتحليل الذاتي: النظر في المرآة، رصد علامات الاحتضار، الاحتفال بالنور، كلها إشارات لرحلة نفسية معقدة.
بالتالي، يُمكن وصف النص بأنه نصّ علاج نفسي بالكتابة، أو بمثابة مرآة وجودية للكاتبة والقارئ معًا.
رابعاً: البعد الفلسفي وإيقاعاته في النص
…………………………………………..
1. جدلية الذات والآخر:
النص يقوم على جدلية “أنا/الآخر”، إذ تسعى الذات لإعادة ترتيب من حولها، لتكتشف في النهاية عجزها عن ترتيب ذاتها عند أول احتراق وجداني:
“من سيعيد ترتيبك عند اصطلاء ريحانة؟”
2. الذات في مواجهة المصير:
النص يتأمل فكرة الموت ليس بوصفه فناء، بل كنقطة صفاء وجودي، كما في صورة الكفن المزين بابتسامة ونياشين التأمل.
3. فلسفة النهوض:
فلسفة “العبور من الظلمة إلى النور”، تترجمها صور الفجر، الطفولة، الابتسامة، والنور البدائي.
خامساً: إيقاعات النص (فكرية، نفسية، وجمالية)
……………………………………………………….
1. إيقاع تأملي داخلي: يتكرّر فيه سؤال الذات للذات، مثل وقفة أمام مرآة.
2. إيقاع انفعالي: يتصاعد من الهدوء إلى الحزن المضيء، خاصة في النهاية.
3. إيقاع شعري رمزي: عبر الصور المركبة مثل: “نظاراتك الوسيمة الابتسامة”، “نياشين التأمل”، “نورك البدائية”.
ملخص القول
………………
قصيدة “من سيعيد ترتيبك” ليست مجرد مقطوعة وجدانية، بل نص تأملي فلسفي نفسي شعري، يتنقّل بين وعي الذات، ومواجهة الفقد، والتشبّث بنور داخلي لا ينطفئ. وتبقى صيحة الختام فيه ليست سؤالًا خائفًا، بل تأمّلًا في حقيقة وجودنا المعقّد بين الجراح والتجلّي، بين إعادة ترتيب العالم… وعجزنا عن ترتيب أنفسنا لحظة الحبّ أو الموت.
تمنياتي لشاعرتنا ريم النقري بالتوفيق والتجديد المستمر في مجال الكتابة العميقة الدالة المعبرة .
علاء الأديب
بغداد
٢٤ نيسان ٢٠٢٥
النص
………
من سيعيد ترتيبك
حين تعيد ترتيبهم
فلتدرك ذاتك الحقيقيًة
باستدارة عذراء
ذاتك التي كنت تدلف منها صمتك المزمن
والمجازات المعلبّة بالسّكوت الفصيح
أن تتعاطاهم بكبرياء روحك
وعنفوان الصّدق المسكون بالألم
أن تهش إطلالة من أعلى هام القلب
كأنك تقف على قاسيون
أن تكون بكامل هيبتك الماطرة بالياسمين
فيكونوا على توقيت عطرك
حين تعيد ترتيبهم
تخلّ عن جراحك ، وطعنات الخلف
واصغ ل رعشة الحبّ المشرئب
من تحت الرماد
حين تعيد ترتيبهم
اغسل هزيمة الغربة بضوء الفجر
وتحفّز كطفل بانتظار تكبيرة العيد
ارتد نظاراتك الوسيمة الابتسامة ،
احجب عنك الأشعّة المستهلكة
واحتف بنشواء نورك البدائيّة
انظر لمرآتك للمرّة الأخيرة
راصدا قسمات احتضار يومك الأخير
ذلك الكفن المتدلي
من صفاء مقلتيك
المطرًز بجلال ابتسامتك
ونياشين التّأمل
مؤتلقا بالمعزيّن القلّة
قاطعا أحاجي ترتيبهم فيك
ولكن …
من سيعيد ترتيبك
عند اصطلاء ريحانة !
ريم النقري