شريف يونس يكتب :تخلف المنطقة العربية

يشعر الكثيرون بالدهشة إزاء تخلف المنطقة العربية أو المتحدثة بالعربية بالمقارنة باوربا. دهشة مستحقة لأسباب عديدة، منها الجذور الحضارية المشتركة بين المنطقتين من آلاف السنين، وأن المشرق كان منبع الجذور المشتركة، من الحضارات القديمة إلى الأديان التوحيدية، ورغم أن أوربا بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية فيها أصبحت متخلفة، تراجعت فيها التجارة واضمحلت المدن بينما ازدهرت الدول الإسلامية والدولة البيزنطية.
يبدو لي أن أحد الجوانب المهمة للتفسير (رغم وجود تفسيرات عديدة) هي أن الانقسام السياسي الشديد لأوربا بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية (وهو ما يُعرف بالنظام الإقطاعي) كان على المدى الطويل مفيدا في تعدد المراكز الحضارية الممكنة وسط الانقسامات السياسية، وعدم وجود سلطة مركزية واحدة قادرة على فرض نظام اقتصادي أو سياسي. كما أن الطابع الريفي السائد في البنية الاجتماعية (مجتمعات مكونة أساسا من نبلاء وفلاحين أقنان) جعل المدن تنمو بقدر من الحرية يختلف من مكان لآخر، وصولا إلى تكوين دويلات مدن، كما في إيطاليا في عصر النهضة.
كانت السلطة المركزية الوحيدة في أوربا هي كنيسة روما. لكن الكنيسة لم تكن لديها سلطة سياسية، بل سلطة دينية تمتلك قدرة على التعبئة وعلى التدخل في السياسة، لكنها لم تكن تحكم بنفسها، ولم تحل محل طبقة النبلاء والملوك.
سمح هذا التفكك، وقيام سلطات مركزية بالتدريج من أواخر العصور الوسطى، إلى إيجاد نظم سياسية قائمة على تجانس محلي وثقافات محلية، ولم تكن المسافة بعيدة بين الحكام والمحكومين في النظام الإقطاعي. فالسيد يعيش في القلعة التي تتوسط أرضه. لم يؤد هذا التفكك الهائل إلى انغلاق كل وحدة على نفسها ثقافيا. فالمسيحية التي اعتُبر أنها لعبت دورا أساسيا في تدمير الإمبراطورية الرومانية لعبت مع ذلك دورا في توحيد هذه الفسيفساء الساسية واللغوية والثقافية بالديانة المسيحية. ورغم تراجع دور الكنيسة لاحقا، وخروج شعوب بأكملها في الانشقاق البروتستانتي، استمر التواصل الثقافي فيما نعرفه باسم الحضارة الغربية أو الأوربية.
أما في منطقتنا، فقد ضمت الإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة تحت سلطتها شعوبا وثقافات ولغات، بل وأديان، عديدة، ووضعت تراتبيات بين “الملل والنحل”، فانفصلت السياسة عن الجماعات على اختلافها عرقيا وثقافيا ولغويا ودينيا، لتصبح من اختصاص جماعة حاكمة، مهمتها الحكم بوصفها جماعة، سواء كانت عربا أم فرسا أم أتراكا، أو حتى عبيدا مماليك (ويمكن اعتبار الإنكشارية العثمانية في فترة من حياتها نوعا من المماليك).
فلما انتهى عصر الإمبراطورية، وبدأ عصر الدولة الحديثة، وجدت الجماعات الكثيرة في المشرق العربي نفسها مطالَبة بأن تشارك غيرها في دولة، لا أن تخضع لعائلة أو عرق حاكم، لذلك انتهى الأمر في كثير من الأحوال إلى قيام جماعة ما من داخل المجتمع بتولي السلطة نيابة عن الجماعات العديدة، مع محاباة طبيعية لبعضها.
لماذا تأخر العرب أو المسلمون؟ أحد الجوانب الأساسية أنهم أجادوا الحياة في عصر الإمبراطوريات بدرجة معقولة، وهذا نفسه هو ما أبطا مسار التأقلم مع بنية الدولة الحديثة.







