(المكان له روح لا تموت…محمود علي ناصره

المكان لهُ روحٌ لا تموت
أبو علي محمود علي ناصر محمد الجحافي
للمكان كيمياء ، وأحياء وفيزياء ، وهندسة فائقة الدقة فطرية ، متعانقة وملتصقة ، ومتجانسة ومترابطة ومتناغمة بتاريخ وجغرافيا ومجتمع الأمكنة ، وللأمكنة أرواحٌ لا تموت ، قد يصيب روح المكان شيءٌ أو أشياء من الوهن والضعف ، لكنها بالنتيجة لا تموت هذه الأرواح المُشبعة بالشعور الفياض والإحساس ومظاهر الحياة المتأصلة في شرايينها ، يكافح المكان دائماً كل عوامل الموت سواء الداخلية والخارجية بكل ما أوتي من قوة ، لأن هذه هي إرادة الحياة التي خلقها الله جل في علاه وجعلها فطرة فطر عليها المكان والزمان والإنسان أيضاً ، لأن الإنسان لا يموت معنوياً ولا يموت أثره ، صحيح يموتُ الإنسان وتصعد روحه إلى بارئها ويدفن الجَسَد ، إنما طيف إشعاع الروح يظلُ ما يشاء الله لهُ أن يظل ويبقى ، في علاقة عضوية وروحية متناسقة مع المكان عابرة للأزمان ، فكم من أناس أعلام تركوا إرثاً باذخاً من العلم أوالقيادة والرئاسة في شتى المجالات ، تجاوزت شهرتهم حدود الأمكنة الجغرافية المحدودة بنطاق محدد ، ووصلت إلى مسامع المعمورة بهاء ، وما زال الكون يردد الصدى الفخم لهذه الأسماء بعين التقدير والاحترام والإجلال إلاّ إن كل إنسان مهما بلغ في مسامع الزمن من المحاسن والانجاز في كل البلدان والأصقاع فإن لهُ مكان ولادة وحياة ودراسة وكفاح ووطن يظل عالقاً في الأذهان ، يحملُ هذا المكان روحٌ لا تموت ، وهذه من أهم سمات وخصائص الأمكنة وحضورها الجامح في النفوس ولكل مكان مزيته وحضوره .
فالإنسانُ عندما يقفُ عند مكان لهُ وقعٌ ماتع في نفسه ، وتفاصيل جميلة شكلت جزء أصيل في حياته ، عندما يقفُ الإنسان هذا الموقف فإن شعوره يقومُ وبسرعة فائقة في تشريح الذاكرة إلى أجزاء متناهية الصِغَر حادة التفاصيل ، تستعيدُ أبرز التفاصيل ودقيقها ، لتحملهُ نحو عوالم من الشعور الجارف والحنين الكبير نحو هذه اللحظات ويتمنى أن تعود ولو للحظات ، وأقسى الأمور النفسية وأحرها وقعاً في القلوب ، عندما يرى الإنسان هذا المكان أو هذه الأمكنة التي نبتت فيها روحهُ وجسده ونمت كل خلجات نفسه وأحاسيسه ومشاعره ، وأفراحه وأحزانه وأحلامه ، وحروفه التي نسجها مداد أقلام مدارسها ، وتفتقت قريحة نظرته للحياة في ظل مجتمعه الذي تماسكت عُرى مداميكه من صفاء قلوب وديعة ، يظلها الوئام والاحترام والانسجام ، وتزداد حضورا كلما طال الزمان بحياة المرء ، أقسى الأمور التي يمر بها الإنسان عندما يرى المكان الذي ارتبط بحياته وتفاصيله وخلجات نفسه لم يعد يملكه ولا يشعر بالانتماء إليه ، هذا الشعور هو لحظي وآني بفعل معاناة تطحن الأرواح بلا رحمة ، لحظات المعاناة والقهر الاستثنائية التي تسبب هذا الشعور في نفوس الناس نحو المكان ، هي نفوس ليس لها علاقة بالجنس البشري ، تولدها في إحساس الناس لتكوي نفوس الآخرين بهذا الشعور المؤلم بلا رحمة ، لكن هذا الشعور الآني ، سرعان ما تنقشع وطأة وثقل الإحساس به ، عندما تتوقد مشاعر الإنسان الحقيقية الأصيلة الدائمة التي لا تؤثر فيها اللحظة الكئيبة المليئة بالظلم والقهر ، فيتعزز بما لا يدع مجالاً للشك عند الإنسان ، إن للمكان حضورا لا تستطيع أعتى قوى الدنيا إجراماً أن تمحوه من شرايين الفؤاد وأنسجة القلب والوجدان ، وهذا هو سر عدم موت أرواح الأماكن ، التي تبقى أرواحها محلقة في كل الأرجاء عطراً وريحاناً وزهراً ، فلا تعلق في الذاكرة غير المكان وأسماء الرجال الذين مروا من هنا فنشروا الورد في كل الجنبات والزوايا عابقاً ، وأما اللصوص فيطمر التاريخ والذاكرة أسماءهم من سجلات فخار المكان والزمان والمكان والأوطان ، وإن ردد التاريخ اسماً فعلى استحياء وكراهة واستقذار ومن قبيل التذكير بشخوصٍ وأزمنه منتنة رائحتها الكريهة تزكم الأنوف ولا تُذكَر إلاّ من باب أخذ الدرس والعبرة ، وتبقى أرواح الأماكن لا تموت حتى يرث الله الأرض ومن عليها وتمورُ يومئذٍ موراً وتطوى كطي السِجل للكُتُب .