رؤي ومقالات

يسري فوده يكتب :تسليم الراية قبل فوات الأوان

كان مساءً باردًا مطيرًا في واشنطن يوم الجمعة 21 فبراير عام 1947 عندما اتصل السيد إتش إم سيشل، السكرتير الأول في السفارة البريطانية في واشنطن بمساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى وأفريقيا، السيد لوي هندرسون. كانت الرسالة “rather important”، وحين يستخدم الإنغليزي هذا التعبير المتواضع فهو يعني في الواقع أنها “في غاية الأهمية”.
وصل الرجل إلى مقر وزارة الخارجية بينما كان موظفوها يلتقطون معاطفهم وقبعاتهم قبل الخروج إلى عطلة نهاية الأسبوع. وكان من المفترض لرسالة في حجم تلك التي كان يحملها أن تأتي مباشرةً من فم السفير البريطاني إلى أذن وزير الخارجية الأمريكي، لكن البريطانيين رأوا أن يعكف الأمريكيون على محتواها في عطلة الأسبوع قبل اجتماع الطرفين بداية الأسبوع التالي.
الرسالة: لم يعد في استطاعتنا قيادة العالم، فهل لكم في تسلم الراية قبل أن يلتقطها طرف آخر؟
كان السبب المباشر هو عجز حكومة جلالة الملك في لندن عن تحمل فاتورة حجمها نحو 50 مليون دولار سنويًا لدعم المقاومة اليونانية والتركية أمام الاختراقات الشيوعية التي تهدد أيضًا جنوب أوروبا والشرق الأوسط.
يعرف المؤرخون ذلك القرن من 1815 إلى 1914 باسم Pax Britannica وهو القرن الذي قادت فيه بريطانيا العظمى العالم وتسيدته عسكريًا واقتصاديًا وثقافيًا وفرضت فيه مفهومها ل “السلام”.
لكن الأمر استغرقها أكثر من 30 عامًا بعد ذلك وهي تتمسك بمجد القيادة قبل أن ينشب الواقع أظفاره في تجاعيد أوهام الإرادة. أثناءها كانت أمريكا قد بلغت من متطلبات القيادة ما يكفي وسط حرب عظمى أنهكت القوى التقليدية على الشاطئ الآخر للأطلسي. حتى تأسيس “عصبة الأمم” عام 1920 بقيادة بريطانيا والدول التي تحالفت معها في الحرب لم يكن في الواقع سوى إحدى بنات أفكار الرئيس الأمريكي آنذاك، وودرو ويلسون. ورغم ذلك رفضت واشنطن الانضمام إلى العصبة (سابقة الأمم المتحدة) وتلكأت عن قيادة العالم. هذا الكاريكاتور الذي نشرته مجلة Punch البريطانية في 10 ديسمبر 1920 يشرح لك الفكرة.
الآن، في فبراير 1947، يختلف الأمر؛ فمن ناحية هي أكثر قوةً واستعدادًا، ومن ناحية ثانية بلغ قائد العالم التقليدي من الضعف ما لا يؤهله للاستمرار وإلا ديس تحت العجلات. انتقلت الراية إلى قائد جديد واستمر القائد السابق في الحياة.
هذه إحدى سنن الحياة للأفراد مثلما هي للإمبراطوريات والدول والشعوب، وفي موقع القلب منها حمل العصا والرحيل قبل فوات الأوان.
كانت أوهام ترمب وحوارييه ومن نفخوا فيه تستعر بينما كان باراك أوباما، كما يذهب بعض المراقبين، يحاول في هدوء مدروس أن يقوم في فترة رئاسته بما لم يقم به أحد من قبله: الاعتراف عمليًا بالواقع الجديد في العالم ومساعدة بلاده على الهبوط الآمن على مدرج المطار قبل أن تقع على جذور رقبتها.
ذهب أوباما وأتى ترمب مرتين، مرةً فشل ومرةً الآن وهو يحاول جاهدًا مستعبطًا (وفي معظم الأحيان جاهلًا) القبض على عقارب الساعة. هذه المحاولة مرهونة بموقف تلك التي تأتي من بعيد وكأنها في موقف يؤهلها لحمل الراية، الصين، التي يبدو أن لها – كما كان لأمريكا قبل قرن – إيقاعها الخاص الذي يناسبها قبل إعلان الجلوس على العرش.
رغم تاريخ دموي يفرق بين البريطانيين والأمريكيين حتى أواخر القرن الثامن عشر، فإن ما يجمعهما استراتيجيًا يفوق بكثير ما يفرق بينهما، ولهذا كان انتقال الراية سلميًا على طريقة سلّم واستلم. هذا فارق جوهري، من بين فوارق أخرى، مقارنةً بالوضع الراهن بين أمريكا والصين.
في محاولته لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى يقامر ترمب بإفقاد بلاده فرصة الهبوط الآمن أمام من يعرف أنه لن يحصل على فرصة تبادل سلمي للراية كما حدث عام 1947، وإنما يجهد لالتقاطها وربما يضطر إلى انتزاعها. وقياسًا على دروس التاريخ، في تقديري أن شيئًا من هذا القبيل سيحدث في غضون العشرين عامًا القادمة.
بلغة هذا الكاريكاتير، ثمة فجوة في قيادة العالم كانت عام 1920 ملأتها أمريكا بعد ذلك بنحو ربع قرن. واليوم ثمة فجوة أخرى لابد أن يملأها أحد ما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى