د. أحمد يوسف أحمد يكتب :تسريبات عبد الناصر .

اعتذر عن لبس وقعت فيه، وهو أننى فهمت أن «قناة ناصر Nasser tv» قد اجتزأت تسجيل لحديث الرئيس جمال عبدالناصر مع الرئيس معمر القذافي، ولما كان معروفًا أن القناة وثيقة الصلة بأسرة الزعيم الراحل فقد طالبت المسئولين عن نشر التسجيل بعدم تكرار هذا العمل إلا بناء على مشورة علمية دقيقة، وبشفافية كاملة، حتى لا يتكرر استغلال الوثائق المجتزأة فى الترويج لأفكار مغلوطة وخطيرة، ولكن المهندس عبدالحكيم عبدالناصر المسؤول عن قناة ناصر هاتفني وأكد لي أن التسجيل المذاع كامل، وأن الجهات صاحبة المصلحة فى التشويه هى من قامت بالاجتزاء ، وهنا تتضح الحقيقة كاملة، فالجهات صاحبة المصلحة أخذت النص الكامل للقاء عبدالناصر بالقذافى، واجتزأت منه ما يتسق مع رؤاها بحيث يبدو عبد الناصر رافضًا فكرة الحرب لتحرير الأرض، وساخرًا ممن يطالبونه بذلك، ومتخليًا عن القضية الفلسطينية، ومستهزئًا بقيادات المقاومة، بل ومنقلبًا على العرب أصلًا، وكلها أفكار مكذوبة اجتزأت عبارات لعبد الناصر ووظفتها فى خدمة أغراضها، وليس ثمة منهج لدحض هذا التشويه أفضل من التحليل الموضوعى للكيفية التى أدار بها عبدالناصر صراعه مع إسرائيل بعد هزيمة يونيو 1967، ويعتمد التحليل التالى اعتمادًا مطلقًا على خطب عبد الناصر وقراراته الفعلية، ومن لديه أى خلاف مع هذا التحليل ليس عليه سوى أن يأتى بدليل.
ويسهل على من يطالع نصوص الوثائق إدراك أن عبدالناصر قد امتلك رؤية واضحة لإدارة الصراع مع إسرائيل منذ هزيمة 1967 وحتى وفاته، وتستند هذه الرؤية إلى مبدأ استراتيجى لم يتخل عنه لحظة وهو أن «ما أُخذ بالقوة لا يُسْتَرَد بغير القوة»، ولا يمنع هذا من السير فى طريق العمل السياسى، ليس لأن لديه ذرة أمل فى نجاحه، لأنه موقن بتوسعية إسرائيل، وبأنها منتشية بانتصارها العسكرى فى 1967، ولكن لسببين محددين أولهما الحاجة لكسب الوقت لاستكمال الاستعداد العسكرى لهجوم يحرر الأرض، والثانى عدم الصدام مع الرأى العام العالمى الذى يتصور إمكانية الحلول السلمية، وثمة ملاحظات توضح إدراك عبدالناصر للمسار السياسى، أولاها أنه ينطوى على تحرير الأراضى العربية المحتلة فى 1967 كلها، وليس المصرية فقط، وثانيتها أنه يعتبر أن أساس هذا المسار وهو قرار مجلس الأمن 242 قاصر وغامض، ومع ذلك فهو مقبول مصريًا لأنه كاف لتحقيق الانسحاب من الأراضى المحتلة فى 1967، بينما من حق الفلسطينيين رفضه لأنه لا يحل مشكلتهم (نص القرار على حل عادل لمشكلة اللاجئين، وهو نص مغاير لقرار الجمعية العامة 194 فى ديسمبر 1948 بوجوب عودة اللاجئين وتعويض من يقررون عدم العودة)، وثالثة الملاحظات أن بناء القوة العسكرية اللازمة للتحرير لا مفر منه، بل إنه يمثل أحد عوامل نجاح المسار السياسى إن كان له أن ينجح، والرابعة أن عبدالناصر لم ينتظر اكتمال بناء القوة العسكرية لتوظيفها ضد العدو، وإنما استخدمها على نحو متناسب مع نموها فى إطار من المخاطرة المحسوبة، كإغراق البحرية المصرية المدمرة إيلات فى أكتوبر 1967، وحرب الاستنزاف التى شهدت بطولات وإنجازات خارقة حتى تم وقف إطلاق النار فى 8 أغسطس 1970، والملاحظة الخامسة أن عبدالناصر أولى اهتمامًا خاصًا ورعاية فائقة للمقاومة الفلسطينية، باعتبارها جزءًا من معادلة القوة فى مواجهة إسرائيل.
ثم نأتى للواقعة التى تجسد التحليل السابق بامتياز، وهى قبول عبدالناصر مبادرة وزير الخارجية الأمريكى روجرز فى 5 يونيو 1970، فقد تضمن خطابه بمناسبة عيد العمال فى أول مايو 1970 نداءً إلى الرئيس الأمريكى نيكسون يُعَد فى حقيقته تهديدًا مهذبًا له، فقد طالبه بالعمل على انسحاب إسرائيل من الأراضى المحتلة، فإن لم يستطع عليه أن يكف عن تسليحها، وإلا فإن هناك لحظة فاصلة قادمة فى العلاقات العربية-الأمريكية إما أن تكرس القطيعة إلى الأبد، وإما أن تكون هناك بداية أخرى جادة ومحددة، وأضاف أن التطورات القادمة لن تمس العلاقات العربية – الأمريكية وحدها، وإنما ستكون لها تأثيرات خطيرة أوسع من ذلك وأبعد، وبعد نحو شهر من هذا النداء/الإنذار الذى ذهب محللون كثيرون آنذاك إلى أنه تهديد بتحول جذرى فى السياسة الخارجية المصرية، تقدم روجرز بمبادرته الشهيرة التى انطوت على وقف لإطلاق النار لـ90 يومًا، ودخول الطرفين فى مفاوضات جديدة لتنفيذ القرار 242، ولم يكن عبدالناصر راضيًا عن محتوى المبادرة، ومع ذلك فإن قبوله الصريح لها فى 22 يوليو 1970 جاء بمثابة ضربة معلم فى إطار نهجه السابق، فمن ناحية أثبت مرونته فى التماشى مع جهود الحل السلمى، ومن ناحية أخرى مثل فرصة ذهبية له لاستكمال جدار صواريخ الدفاع الجوى وصولًا إلى النسق الأمامى على الضفة الغربية للقناة، وكانت إسرائيل قد استماتت لمنع استكماله، لأنه كان يعنى توفير حرية الحركة للقوات المصرية على الضفة الشرقية فى مدى هذه الصواريخ، ولم يكن عبور القوات المصرية للقناة ممكنًا دون هذا العمل، وفى إنجاز سوف يخلده التاريخ المصرى استطاعت القوات المسلحة المصرية أن تقفز قفزة الضفدعة الأخيرة إلى الحافة الغربية للقناة قبل وقف إطلاق النار بساعات بعمل كان مقدرًا أن يستغرق شهورًا. وهنا قامت قيامة من يريدون تشويه الجهد المصرى لاستعادة الأرض ومن لا يحاربون، واتُّهم عبدالناصر بالتفريط، ونُظمَت حملات بالغة الإساءة لشخصه ونهجه، كما بدأت تحركات مشبوهة لتقويض دور مصر، وتشاء الظروف أن تتعرض المقاومة لخطر التصفية من خلال صدامها مع السلطة الأردنية فى سبتمبر، فيهب عبدالناصر لإنقاذها، ويدعو لأسرع مؤتمر فى تاريخ القمم العربية لحقن دماء المقاومة، ليُسْتَشْهَد وهو يناضل من أجل الحفاظ على المقاومة التى اتُّهِم بخيانتها، وهاهو التاريخ يعيد نفسه على نحو هزلى ممن يريدون التمسح بعبدالناصر لتبرير سياساتهم البائسة.