رؤي ومقالات

جمال محمد غيطاس يكتب :بعدما جاوز الظلمُ والدمُ والخِذْلانُ المَدَى: في انتظار مصر… قبل رئيسها

خلال الأيام الماضية، تصاعد ظلمُ الصهاينة حتى تجاوز المدى الذي عرفته البشرية في أسوأ أيامها، وارتفع مستوى الدم المتدفق من أجساد أشقائنا في غزة إلى ما يكفي لصبغ المنطقة بأسرها باللون الأحمر، وتمادى خِذْلانُ الأشقاء حتى شلَّ كلَّ عقل، وأباد كلَّ منطق، وخسف الأرضَ بكلِّ قيمة، بعدما دارت برؤوسهم كؤوسُ الطِّلَى في حضرةِ سيدِهم كبيرِ الصهاينة وسندِهم الأعظم، مما يجعلنا نعود لما نعتقد أنه البديل الذي يمكن أن يقود للخروج من هذه الكارثة المروعة، والبديل هو مصر… الكلمة المفتاحُ الأجدى والأكثرُ نفعًا في التعامل مع ما يجري، بحقائق التاريخ والجغرافيا والبشر والحجر.
ولكن دون مواربة: مصر قبل رئيسها، لا بعده، حرةٌ مبدعةٌ، لا محصورةٌ ولا مأسورةٌ في قبضتِه.
كمواطن، لستُ في خصومةٍ شخصيةٍ مع السيد الرئيس، ولا ينبغي أن يكون أحدٌ منا كذلك، ولا أكنُّ له سوى الاحترام، بصفته وشخصه، هو وسائر المصريين، ويتعين أن نكون جميعًا كذلك مع بعضنا البعض. لكنني، بوضوح، رافضٌ على طول الخط لنهجه في الحكم ورؤيته للتنمية وأولوياته في التنفيذ، وهو اجتهادٌ يحتمل الصواب والخطأ، يقابله اجتهادُ الرئيسِ وفريقِه، الذي رآه هو الصوابَ في تحمُّل المسؤولية، وأراه أنا يحتمل الصواب والخطأ.
لكن هذا الرفض لا يجب أن يمنع تقدير ودعم وتأييد ما قاله السيد الرئيس أمام القمة العربية في بغداد حيال الكارثة الكبرى التي نعيشها، لأنه ببساطة نطقَ بكلماتٍ أرى فيها شيئًا من روح مصر التي نبحث عنها ولا نزالُ ننتظرها، وعلينا أن نكدَّ ونسعى بكلِّ الطرقِ الدستوريةِ والقانونيةِ السلميةِ الوطنيةِ الخالصةِ لعودتها، عبر توافقٍ وطنيٍّ هادئٍ، قائمٍ على الاحترامِ المتبادلِ، والنديةِ في التفكير، وأدبِ الحوار، والاعتمادِ على الانتخاباتِ الحرةِ النزيهةِ وسيلةً للتغيير، بعيدًا عن أيِّ تهوُّرٍ أو عنفٍ أو شقاقٍ أو صدامٍ.
بوضوح… مصر التي نطلبها ليست الرئيس، لأنه لا يصحُّ اختزالُها في شخصٍ، لكنها الأمةُ التي هي فوق الدولة، والدولةُ التي هي فوق السلطة، والسلطةُ التي يجلس الرئيس على قمتها، وتعملُ خادمةً للأمة وفقًا لدستورِها وقوانينِها وقيمِها ودينِها وحضارتِها.
كما قلتُ سابقًا، مصر هي البديل الصحيح على المدى الطويل، فهي الطريقُ التي تجمع بين صون الاستقلال والكرامة، والحدِّ المعقول من العيش الكريم، دون الانزلاقِ إلى هاويةِ الصهاينة التي تنتهي حتما بأن يكون في كل عاصمة من عواصم العرب مندوبا ساميا صهيونيا من احفاد القردة والخنازير، يناط به مهام الحاكم الفعلي ، ويلعق حكامنا أو اشباه حكامنا حذاؤه كل صباح، ويعقدون معه صفقات الخسة والذل في الظلام همسا كل مساء، ودون انزلاق لطريق ينتهي وبلداننا حجر على حجر، بها دم نازف، يفرز هامات مرفوعة تناطح الصهاينة وتذيقهم الذل وتغرقهم في الوحل، ولكن بلا راحة ولا تنمية ولا أمن.
إذا تحققت ثلاثة أمور، ستنفتحُ أمام مصر الطريقُ الشاقُّ الطويلُ للبناءِ والريادة، وتعودَ للمشهدِ لتلعبَ دورَها الطبيعي المطلوبَ منها والمناسبَ لها، والذي لا يستطيعُه غيرُها، سواء على يد الرئيس وفريقه، أو على يد آخرين، والأمور الثلاثة هي:
1. تحريرُ عقلِها من غياهبِ السجون ومتاهاتِ الأرفف داخل مخازن الاستيداع الطوعي أو القسري، وهي الحالة القائمة منذ ما يزيد على نصف قرنٍ وحتى هذه اللحظة.
2. الكفُّ عن تقييدِ نفسها بذلِّ الديون من جهاتٍ يحركُها الاحتلالُ بأطرافِ أصابعِهم، أو أصحابِ الثرواتِ بقصرِ نظرِهم، وهي حالةٌ تفرضُها خلطةُ الحكمِ القائمةُ على الاستبداد.
3. إنهاءُ حالةِ الصراعِ بين الشيخِ والجنرال، التي تمتدُّ جذورُها لآلافِ السنين، ومن أوضحِ مظاهرِها محاورةُ “حور محب” قائدِ الجيشِ مع كبيرِ كهنةِ آمون، ممثلِ الدين والعقيدة، خارج غرفة الفرعون “إخناتون” وهو على فراشِ الموت.
تقديري أن كلَّ من ساندَ وفرحَ بكلماتِ السيد الرئيس أمام قمة بغداد، شعرَ أولًا بأنها كلماتٌ تحملُ رائحةَ مصر التي يريدُها، والمتغلغلةَ في أعماقه، وتسكنُ خلاياهُ وجيناتِه، فهو مصريٌّ وكفى، لكنني بشكلٍ شخصيٍّ أقولُ بوضوحٍ: نحن نريدُ مصر قبل رئيسِها، ثم لا فرقَ إن كانت معه أو مع غيره، وإذا جاءت مصرُ التي نحلمُ بها عبر رئيسِها، فسيكون ذلك أقلَّ الحلولِ تكلفةً، وأشدَّها فعاليةً ونفعًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى