نحنُ الذين نحبُّ في الوقتِ الضيّق….بقلم ريما حمزه

تعالوا
نخرجُ من التاريخِ وندخلُ في النشيدِ في العلمِ المحمولِ على أصابعِ الفجرِ
نُقيمُ صلواتَنا
في الشرفاتِ المهجورةِ،
نكتبُ أسماءَنا على الحيطانِ لا لنُعلنَ انتصاراً،
بل لنقولَ: كُنّا هنا…
وما زلنا.
نحنُ الذين نُحبُّ،
لا نطلبُ الحبَّ تزجيةً للعمرِ،
بل نجعلهُ طريقةً لنعرفَ كيف نُعيدُ تركيبَ الغدِ،
كيف نلمُّ دمشقَ حين تنفرطُ من صدرِها
وتصيرُ شالاً على كتفِ العاصفةِ.
نحنُ الذين نُحبُّ،
كي نحمي المعنى من السقوطِ
________________________________________
نحنُ الذينَ نُحبُّ،
لا نطلبُ الحبَّ من أجلِ وردةٍ على الجدارِ،
ولا من أجلِ قلبٍ
يُصفِّقُ للوقتِ حينَ يمرّ،
نحنُ نحبُّ لأنَّ البلادَ تُوجعُنا،
ولأنَّ الذينَ يوجعُونا… يشبهونَنا كثيراً.
نحنُ الذين نُحبُّ،
نُخفي غصّتنا بقبلةٍ،
ونُرمّمُ البيوتَ بضحكةِ أمٍّ
نسيت كيفَ تنادي أبناءَها بالفرحِ.
________________________________________
في الساحةِ…
صوتُ المؤذّنِ مائلٌ نحوَ البُكاءِ،
مائلٌ نحو التاريخِ
والحمامُ لا يطيرُ…
يرتجفُ،
والشجرةُ التي كانت تستظلُّ الحكاياتِ،
ماتت واقفةً
كأنَّها أمٌّ في وداعِ شهيدٍ.
________________________________________
نحنُ نحبُّ
كما لو أنَّ الحبَّ وطنٌ،
وكما لو أنَّ اليدَ حين تلمسُ يداً
تُعيدُ ترتيبَ الدمِ في الشرايينِ،
نُحبُّ… لا لننسى،
نُحبُّ
لننجو من لعنةِ التذكُّرِ.
________________________________________
يا أنتَ،
قل معي:
إنَّ الحبَّ هو الحبُّ
إنَّ الحبَّ ضدُّ النسيانِ،
وضدُّ الحربِ،
وضدُّ الذين يرسمون الخرابَ،
ولا يعرفونَ
كيف يحتضنونَ طفلاً.
________________________________________
نحنُ الذين نحبُّ،
نُمرّرُ يدَنا على جديلةِ حلبَ،
نسقي ظلالَها بماءِ النشيدِ،
ونحملُ فجرَ حمصَ على أكتافِ الكلامِ،
نقولُ للغصنِ: لا تنكسرْ…
فثمةَ ضحكةٌ تنتظركَ
في آخرِ هذا الليلِ الطويلِ.
________________________________________
نُحبُّ
كما لو أنَّ اللاذقيةَ ليست بندقيةً
بل يدٌ مبلّلةٌ بالملحِ والعنبرِ،
نُحبُّ
كما لو أنَّ درعا ليست ممراً للجثثِ،
بل حنجرةٌ تُدرّبُ الفجرَ على النشيدِ.
نحبُّ كما لو أنَّ التاريخَ يهتفُ:
خذوني إليكم طفلاً جديداً
________________________________________
سوريا كأسٌ واحدةٌ،
نشربُها نحنُ — العشّاقَ والخائفون والواقفون في منتصفِ الحلمِ،
نكسرُها حيناً لننقذَ وردةً،
ونلملمُ شظاياها
لنصنعَ منها مرآةً نُصلحُ بها وجوهَ الأطفالِ.
________________________________________
نُحبُّ لأنَّ الحبَّ هو الشيءُ الوحيدُ
الذي لم يُغادرِ الخريطةَ،
ولم يتلطّخْ بلونِ البنادقِ.
نُحبُّ لأنَّ الجدارَ يحتاجُ لصوتٍ،
ولأنَّ المدينةَ، أيُّ مدينةٍ،
لا تشفى إلّا حينَ تسمعُ قلباً يقولُ لقلبٍ:
“أنا هنا… فلا تخفْ.”
________________________________________
يا سوريا،
نحنُ الذينَ نحبُّكِ لأنَّكِ وجعٌ يسيلُ فينا،
وشجرةٌ
تُعانقُ ظلَّها في الضوءِ،
نحبُّكِ لأنَّكِ أنثى القصيدةِ،
ونبوءةُ الجداتِ في المواويلِ حينَ يختلطُ الدعاءُ بالدمعِ.
________________________________________
نحنُ الذين نُحبُّ في الوقتِ الضيّقِ،
لا نملكُ وطناً بحجمِ الخيالِ،
لكنَّنا نملكُ خارطةً محفورةً في اليدِ،
وساعةً تُشيرُ دوماً إلى الوقتِ الذي
ينبغي فيه أن نُحبّ.
________________________________________
نحنُ الذين نُحبُّ،
لنُصلحَ الكسرَ في الذاكرةِ،
ونُرمّمَ الشقَّ في علمِ البلادِ،
حينَ صارَ يُرفرفُ على قُبابٍ مختلفةٍ،
تتناحرُ في اتجاهِ الريحِ.
________________________________________
نحنُ الذين نحبُّ،
نفتحُ أبوابَ حلبَ للعناقِ،
نُنقّي نهرَ بردى من دموعِ الطوائفِ،
ونُعيدُ لحمصَ قلبَها
الذي كان يضحكُ ويعزفُ العودَ في المقاهي
قبل أن تُغتالَ الضحكةُ.
صوتُها يأتي كنسمةٍ بينَ الغصونِ..
_______________________________________
يا أنتَ… لا تسألني مَن أكونُ،
أنا التي مشَتْ على خرائطِ الخوفِ،
وحملتُ في صدري كلَّ المدنِ،
أنا الشامُ وحلبُ ودرعا
حينَ كنّا اسمًا واحداً للحُبِّ.
لا تُناديني بسنيّةٍ ولا علويّةٍ،
نادِني كما نادى الرعاةُ الغيمَ:
“يا نبعَ الله!”
نحنُ الذين نُحبُّ لا نحتاجُ مذهباً،
نحنُ مذهبُ القلبِ حين يُؤمنُ بالإنسانِ.
حين يؤمن بالوردةِ تجرُ الطفلَ إلى عطرِ اللهِ
________________________________________
ويعود صوتُها…
دعونا نحبُّ،
لا كما يفعلُ الشعراءُ في آخرِ القصائدِ،
بل كما تفعلُ الأمهاتُ حينَ يُنادي الطفلُ من الركامِ:
“أنا هنا…”
فتُسابقُ النيرانَ لتحتضنهُ.
دعونا نحبّ
كي نشطب الدمَ الملوّن بطوائف العتمةِ.
________________________________________
يا سوريا،
نحنُ الذين نحبُّكِ
لا لأنكِ وردةٌ في الأغنيةِ،
نحبك
لأنكِ جرحٌ لا نُريدُ له أن يُغنّى بعد الآن.
________________________________________
ونحن الذين نحبك
لا نغادر القصيدةَ
نقيمُ فيها كأنها بيتُ الطفولةِ
نُغلقُ على حبرنا البابَ ونفتحُ للندى نافذةً باسمِ الترابِ
فيا أيتها السويداءُ
يا ضفةَ الروحِ حين يجفُّ النشيدُ
يا شرفةَ النارِ تطلُّ من خاصرةِ الأملِ
يا جديلةَ من زعترٍ تتدلى على كتفِ البرقِ
من أنت؟
أأنتِ مدينةٌ
أم حنجرةٌ لأغنيةٍ لا تموتُ
أم رغيفٌ تعلَّم أن يُطعم الفقراءَ من كرامتِه؟
نراكِ
كلما تلعثمت الطوائفُ في لغةِ الدمِ
وتهجّت البنادقُ أسماءَ المدنِ
تخرجين من صمتكِ مثل قافيةٍ مفجوعةٍ
وتقولين للرصاصِ:
أنا من حجرٍ أحبُّ وجهَ النارِ لا كي يحترقَ
بل كي يضيءَ الطريقَ إلى الحياةِ
أنا الجبلُ حين يتذكّرُ كيف يُغنّي
والأنثى التي نذرت جديلتها لأجل القصيدةِ
والرصاصة التي تعرفُ أن الشرفَ لا يؤجَّلَ
يا أيتها السويداءُ
يا التي علّمتِ العاصفةَ كيف تُرَتّلُ
ناديتِ أبناءك
فماتَ واحدٌ وفي يده غصنٌ من أغصانِ المجدِ
وسافر الآخرُ،
يحمل صوت الجبلِ في حقائبِ الغيابِ
وبقي ثالثهم
يحرس الحجرَ،
ويخيط علمَ البلادِ من خيطِ الدمِ
لم يقولوا الكثيرَ
فالصمتُ في حضرةِ النداءِ بيانٌ
نحنُ الذين نحب
حين ينادي الجبلُ لا نتأخر
نأتي من تعب الأمهاتِ
ومن خبز الجدّاتِ
نأتي لنكون أسماءَ اللهِ في
السلامِ السلامِ السلامِ .