تقارير وتحقيقات

كمثل اليوم 25 مايو 1927م انتهاء ” حرب الريف “

وسقوط اول جمهورية عربية في الريف المغربي واستسلام ونفي الامير والمقاوم والقائد عبدالكريم الخطابي ..
ولد الأمير محمد عبدالكريم الخطابي سنة 1883م في بلدة “أغادير” في الريف المغربي بين “مليلية” و”تطوان” قرب الحسيمة المغربية. نشأ وتربى تحت رعاية والده، الذي حرص على تنشئته نشأة دينية سليمة؛ فبدأ بتعليمه القرآن حتى أتم حفظه ودرس مبادئ الشريعة وتلقى دروسه الابتدائية والثانوية في مليلة، ثم أرسله والده إلى جامعة القرويين بمدينة (فاس) لدراسة العلوم الشرعية واللُّغوية. وبعد تخرُّجه من الجامعة وتَمكُّنه من الفقه الإسلامي والحديث، عمل مُعلِّمًا ثم قاضيًا، وقاضيًا للقضاة في مدينة مليلة المحتلة وعمره آنذاك لم يتجاوز الثالثة والثلاثين، وكذلك عمل محررًا صحفيًا في جريدة “تلغراف الريف” .
تمتد بلاد الريف بمحاذاة الساحل مسافة 400 كيلومتر طولا و100 كيلومتر عرضا، وتسكنها قبائل مسلمة ينتمي معظمها إلى أصل أمازيغي، ومنها قبيلة أيت ورياغل التي ينتمي إليها الأمير المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي.
تقاسمت وفرنسا واسبانيا احتلال مناطق المغرب العربي عندما بدأ الأسبان ينفذون سياسة توسعية في المغرب، صادفوا معارضة قوية داخل إسبانيا نفسها بسبب الهزائم التي تعرضوا لها على يد الأمريكيين في الفليبين وكوبا، فعارض الرأي العام الإسباني المغامرات العسكرية الاستعمارية، إلا أن المؤيدين احتجوا بأن احتلال المغرب ضروري لتأمين الموانئ الإسبانية الجنوبية، وضَمَّ رجال الدين صوتهم إلى العسكريين.
وكان الإسبان يعرفون شدة أهل الريف الأمازيغ لتوسعهم، فاكتفوا في البداية بالسيطرة على محيط ضيق حول سبتة ومليلية المحتلتين منذ القرن 15، ثم اتجهوا بعد ذلك إلى احتلال معظم الموانئ الساحلية المحيطة بمنطقة نفوذهم، وكانت خطتهم تقوم على أن تتقدم القوات الإسبانية عبر منطقة الجبالة لاحتلال مدينة تطوان، التي اتُّفق على أن تكون عاصمة للمنطقة الإسبانية، لكن ظهر في الجبالة مجاهد محلي قوي هو «أحمد بن محمد الريسوني» الذي حمل لواء الجهاد منذ سنة 1911م إلا أن الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي كان له الأثر الأعظم في المقاومة القبائل الأمازيغية.
وقد اصطدم الريسوني بالإسبان عندما احتلوا ميناء أصيلة الذي كان يعتمد عليه في استيراد الأسلحة، وبعدها ساروا إلى احتلال مدينة تطوان، فوقعت مصادمات بينهم انتهت بصلح اتفق فيه على أن تكون الجبال والمناطق الداخلية للريسوني، والساحل للإسبان، غير أن الأسبان نقضوا العهد، وطاردوه وتوغلوا في بلاد الجبالة واستطاعوا أن يحتلوا مدينة الشاون أهم مدينة في تلك البلاد في (صفر 1339 هـ / أكتوبر 1920 م).
أما في الريف الشرقي بمنطقة الناظور فبرز قائد مقاومة آخر هو المجاهد الشريف محمد أمزيان الذي قاد المقاومة ضد الإسبان قبل الأمير الخطابي نفسه. إلا أنه مقاومته اصطدمت بقلة الإمكانات والأسلحة.
الأمير الخطابي
كانت الثورة الثانية ضد الأسبان هي ثورة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، زعيم قبيلة بني ورياغل، أكبر قبائل الأمازيغ في بلاد الريف، وقد وُلد الأمير سنة (1299 هـ / 1881 م) في بلدة أجدير لأب يتولى زعامة قبيلته، فحفظ القرآن الكريم صغيرا، ثم أرسله أبوه إلى جامع القرويين بمدينة فاس لدراسة العلوم الدينية، ثم التحق بجامعة سلمنكا بإسبانيا، وبذلك جمع بين الثقافة الإسلامية وبعض النواحي من الثقافة الأوروبية، ثم عُين قاضيا في السلطة الإسبانية بمدينة مليلية التي كانت خاضعة لإسبانيا،
كان الأسبان قد عرضوا على والد الأمير أن يتولى منصب نائب السلطان في تطوان التي تحت الحماية الأسبانية، وأن يقتصر الوجود العسكري الأسباني على المدن، إلا أنه اشترط أن تكون مدة الحماية محددة فلم ينفذ هذا العرض.
وبعد سيطرة أسبانيا على مدينة الشاون وإخضاع منطقة الجبالة، استطاعت أن تركز جهودها وقواتها في بلاد الريف، أعلن معارضته للاستعمار، ورفض تقديم الولاء للجنرال الأسباني غوردانا؛ فما كان من الجنرال إلا أن عزل الخطابي عن قضاء مليلية، واعتقله قرابة العام، ثم أطلق سراحه، ووضعه تحت المراقبة، وفشلت إحدى محاولات الخطابي في الهرب من سجنه، فأصيب بعرج خفيف لازمه طوال حياته، ثم غادر مليلية ولحق بوالده في أجدير، وفي هذه الأثناء توفي والده سنة (1339 هـ / 1920 م) فانتقلت الزعامة إليه.
من القضاء إلى الثورة
تولى الأمير الخطابي زعامة قبيلة أيت ورياغل، وقيادة المقاومة في بلاد الريف المسلمة. زحف الجنرال سلفستر قائد قطاع مليلية نحو بلاد الريف، واحتل بعض المناطق دون مقاومة تُذكر، واحتل مدينة أنوال، وتقدم اثني عشر ميلا بعدها؛ فظن أن قبائل بني ورياغل خضعت له، ولم يدرِ أن الأمير الثائر أراد أن يستدرجه إلى المناطق الجبلية ليقضي عليه تماما، وأنه ادخر رجاله لمعركة فاصلة.
معركة انوال
بلغ قوام الجيش الأسباني بقيادة الجنرال سلفستر 24 ألف جندي استطاع أن يصل بهم إلى جبل وعران قرب أجدير مسقط رأس الأمير، وعندها قام الخطابي بهجوم معاكس في ( 1 يوليو 1921 م) استطاع خلاله أن يخرج الأسبان من أنوال، وأن يطاردهم حتى لم يبق لهم سوى مدينة مليلة، وكانت خطة هجومه في أنوال أن يهاجم الريفيون الأسبان في وقت واحد في جميع المواقع؛ بحيث يصعب عليهم إغاثة بعضهم البعض، كما وزع عددا كبيرا من رجاله في أماكن يمكنهم من خلالها اصطياد الجنود الفارين. إلا أن خطة المقاومين الأمازيغ كانت الأقوى رغم بساطة أسلحتهم الخفيفة. واستخدم الأمير خطة حرب العصابات الغير النظامية واستدرج الإسبان إلى فخ محاط بتضاريس وعرة فوجد الإسبان أنفسهم محاصرين.
وقتل أو أسر معظم الجيش الأسباني بما فيهم الجنرال سلفستر الدي انتحر هروبا من الهزيمة. واعترف الأسبان أنهم خسروا في تلك المعركة 15 ألف قتيل و570 أسيرا. وهو نصر عملاق بالمقاييس العسكرية المحايدة يصعب تحقيقه من طرف الجيوش الكبرى.. واستولى المجاهدون في الريف على 130 موقعا من المواقع التي احتلها الأسبان وحوالي 30 ألف بندقية و129 مدفعَ ميدان و392 مدفعا رشاشا.
بعد الانتصار العظيم الذي حققه الخطابي في أنوال ذاعت شهرته في بلاد الريف وخارج بلاد مملكة المغرب حتى وصلت أصداء انتصاراته إلى الصين وأميركا. وأعلن الأمير الخطابي جمهورية مستقلة تحت اسم جمهورية الريف.
ولم يوسع عبد الكريم الخطابي عملياته إلى مليلية المحتلة، لأنه فضل تنظيم صفوفه وتحصين مواقعه وعدم الاستعجال للمحافظة على انتصاره. وتمكن الأسبان من حشد ستين ألف مقاتل قاموا بهجوم معاكس في 12 سبتمبر 1921م فاستعادوا بعض ما فقدوه، وبلغ مجموع القوات الأسبانية في ذلك العام ببلاد الريف أكثر من 150 ألف مقاتل، ورغم ذلك أصبح وجود الأسبان مقصورًا على مدينة تطوان والموانئ وبعض الحصون في الجبالة، أما المجاهدون الأمازيغ فقد سيطروا على معظم بلاد الريف.
ويعزو الأسبان وقوع هذه الهزيمة إلى طبيعة البلاد الصعبة، والفساد الذي كان منتشرا في صفوف جيشهم وإدارتهم، وأرسلت حكومة مدريد لجنة للتحقيق في أسباب هذه الكارثة المدوية، ذكرت أن الأسباب تكمن في إقامة مراكز عديدة دون الاهتمام بتحصينها تحصينا قويًّا، كما أن تعبيد الطرق التي تربط بين هذه المراكز كان خطأ كبيرًا من الناحية العسكرية، ويعترف التقرير بأنه لم يكن أمام المجاهدين المغاربة إلا أن يلتقطوا الأسلحة التي تركها الجنود الفارون،
طلبت فرنسا من إسبانيا أن تفتح جبهة جديدة، فغطت الطائرات سماء مراكش، وأخذت تضرب المدنيين بلا تمييز، بل إنها تعمدت ضرب الأسواق التجارية والمدارس والمستشفيات، لتشيع الذعر والخوف.
مع تشكل تحالف دولي وإعلان الحرب على جمهورية الريف، والاستعانة بجنود مرتزقة من شمال إفريقيا، عُقد مجلس حربي مشترك بقيادة الجنرال بواشو في القيادة الفرنسية وسان خورخو في القيادة الإسبانية، واتفقوا جميعًا على الهجوم دفعة واحدة على جميع الاتجاهات من جمهورية الريف.
كان مجموع القوات الفرنسية في المغرب 65 ألف جندي ومن بينهم مغاربة مجندون في الجيش الفرنسي، وكانت فرنسا ترى أن هذه القوات غير كافية لدخول حرب في الريف؛ لذلك أرسلت قوات إضافية أخرى حتى بلغ مجموع هذه القوات 158 ألف مقاتل، وفي (أبريل 1925 م) وقعت شرارة الصدام بين الفرنسيين والخطابي، عندما أمدّ الفرنسيون زعماء محليين بالمال والسلاح ليشجعوهم على إثارة الاضطرابات في الريف، فأدى ذلك إلى مهاجمة الريفيين لبعض الزوايا قرب الحدود، ووجد الفرنسيون في ذلك حجة للتدخل لحماية أنصارهم، وعندما بدأ القتال فوجئ الفرنسيون بقوة الريفيين وحسن تنظيمهم وقدراتهم القتالية، فاضطروا إلى التزام موقف الدفاع مدة أربعة أشهر، واستطاعت بعض قوات الريف التسلل إلى مسافة 20 ميلا بالقرب من فاس، وخسر الفرنسيون خسائر فادحة، ووقعت كثير من أسلحتهم في أيدي الريفيين، فقلقت فرنسا من هذه الانتصارات، وأرسلت قائدها العسكري البارع «بيتان» للاستعانة بخبرته وكفاءته.
إسبانيا وفرنسا ضد الريف
كان صمود الريف أمام فرنسا وإسبانيا حالة نادرة في تاريخ الحروب الاستعمارية، يرجع جوهره إلى كفاءة الزعماء الريفيين في ميدان القتال والحرب؛ فقد استخدم هؤلاء المقاتلون خطوط الخنادق المحصنة على النمط الذي أقامته فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى، وقاد الريفيون الحرب ضد ثلاثة مارشالات وأربعين جنرالا وحوالي ربع مليون مقاتل فرنسي وأسباني مدعمين بالطائرات والمدرعات وتحت إشراف رؤساء حكوماتهم.
وقد اتخذت فرنسا بعض الإجراءات لتدعيم موقفها في القتال، فطلبت من السلطان المغربي أن يعلن الخطابي أحدَ العصاة الخارجين على سلطته الشرعية، وفي ظل ما أشاعت عنه فرنسا من رغبة الخطابي في الانشقاق عن العرش المغربي، ونتيجة لسوء التفاهم هذا والتدبير من طرف المحتل وخونة عبد الكريم، أعلنه السلطان المغربي خارجا عن سلطته، وقام برحلة إلى فاس لتأليب القبائل على الريف، كذلك نسقت فرنسا خططها الحربية مع حكومة مدريد، وعقد مؤتمر لهذا الغرض اتفق فيه على مكافحة تجارة السلاح بين الريف وأوروبا، وسمع بتتبع الثائرين في مناطق كل مستعمر، وتعهدت باريس ومدريد بعدم توقيع صلح منفرد مع الخطابي.
تسليم النفس
واتفق الأسبان والفرنسيون على الزحف إلى الريف بهدف تحقيق اتصال عسكري بين الدولتين وخرق الريف، وتقسيم قواته إلى جزأين؛ وهو ما يعرضهم لموقف عسكري بالغ الحرج، إلا أن قدوم الشتاء ببرودته أجَّل هذا الزحف وبعض العمليات العسكرية، وخسر الخطابي في تلك المعارك حوالي 20 ألف شهيد، وبقي بجانبه حوالي 60 ألف مقاتل. اتسعت الحرب في (1344 هـ / 1926 م) وتجدد الزحف والتعاون العسكري التام بين باريس ومدريد مع تطويق السواحل بأساطيلهما، وقلة المؤن في الريف؛ لأن معظم المقاتلين في صفوف الخطابي من المزارعين، وهؤلاء لم يعملوا في أراضيهم منذ أكثر من عام، وهم يقاتلون في جبهة تمتد إلى أكثر من 300 كم.
ولجأ الفرنسيون إلى توجيه دعوة للقبائل لعقد صلح منفرد مع فرنسا أو أسبانيا في مقابل الحصول على حاجاتهم من الطعام، فوجد الخطابي أن الحكمة تقتضي وقف القتال رحمة بسكان الريف وقبائله قبل أن تلتهمهم الحرب، وقبلها الجشع الفرنسي والأسباني.
وقد فكر محمد بن عبد الكريم الخطابي أن يخوض بنفسه معارك فدائية؛ دفاعا عن الريف ودينه، إلا أن رفاقه الأوفياء منعوه ونصحوه بالتفاوض، فقرر أن يحصل لبلاده ونفسه على أفضل الشروط، وألا يكون استسلامه ركوعا أو ذلا، ورأى تسليم نفسه للفرنسيين على أنه أسير حرب، واقتحم بجواده الخطوط الفرنسية في مشهد رائع قلّ نظيره كمثل اليوم في 25 مايو 1926م.
قبض عليه ونفته فرنسا إلى جزيرة لارينيون النائية في المحيط الهادي على بعد 13 ألف كيلو متر من موطنه الذي شهد مولده وجهاده.
ثم الي جزيرة مدغشقر ،،
في عام 1947م، قرر الفرنسيون نقل الخطابي من الحبس الانفرادي في مدغشقر إلى فرنسا. أخذته سفينة تجارية فرنسية من الجزيرة، وأثناء مرورها بميناء عدن للتزود بالمؤن والوقود، تسرّب الخبر بوجود الخطابي على متن السفينة وتم ابلاغ عبدالرحمن عزام بوجود اسير يدعي انه الامير الخطابي فتمّ ترتيب الأمر بين الجامعة العربية والملك فاروق لتحرير الخطابي.
عند مرور السفينة بميناء بورسعيد، صعد إليها عبد الرحمن عزام – أول رئيس للجامعة العربية-، وطلب من قائدها أن ينزل الخطابي لمقابلة الملك فاروق، ووافق قائد السفينة. قرّر الملك فاروق الإبقاء على عبد الكريم الخطابي داخل الأراضي المصرية،
في مصر، بقي الأمير المقاوم محمد عبد الكريم الخطابي يتابع أخبار المقاومة، ويمدّ القادة والسياسيين بخبرته وإرشاداته، وعقب قيام ثورة يوليو احتفي بالامير الخطابي وكان مقر اقامته قبلة للثائرين والمناضلين حول العالم ومن بينهم القائد الثوري الشهير تشي جيفارا الذي قدِم إلى مصر خصيصًا لاستشارة الخطابي. وقال نصا انا هنا لاتعلم منكم كيف يكون النضال ..
وفاته
توفي البطل عبد الكريم الخطابي في 6 فبراير 1963م الموافق 1 رمضان 1382هـ ودفن بالقاهرة
وخلال السنوات الأخيرة، أجريت بعض الترتيبات بين الجانبين المغربي والمصري، لنقل رفات الخطابي من القاهرة إلى المغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى