رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب : سكارى الغرف المظلمة

خرجت المانيا من النازية بعقدة الشعور بالذنب واتجه الالمان نحو البناء وسياسات المصالحة بلا نسيان،
في حين خرج العراقي من الدكتاتورية ــــــــ اذا خرج فعلاً لأنها عقلية وطريقة تفكير وذهنية ــــــــ بعقدة الشعور بالعظمة والانتفاخ المرضي ــــ بلا تعميم لكن كظاهرة عامة ــــــ واتجه نحو الخراب وسياسات الثأر والانتقام وتصفية الحسابات كتعويض عن سنوات الاذلال والخوف في حين التعويض الحقيقي والانتقام من تلك السنوات في بناء مؤسسات العدالة والديمقراطية والصفح الممكن والغفران الواعي مع العقاب العادل المنصف للضحايا ولا يمكن النسيان لانه ليس فعل إرادة.
في السنوات الاخيرة تصاعد السخط المشروع ضد ظاهرة التنمر والشراسة والكلبية في الحوارات من قبل فئات ناجية من هذه العاهة لكن السخط لا يجدي نفعاً في واقع ينتج كل انواع التشوهات مما تعجر الحكمة والنصح والغضب في ايقافه ولاول وهلة تبدو هذه الظاهرة جديدة على الذاكرة المبتورة التي تعتبر الحدث الاخير هو الحدث الاول بلا جذور ولا تسلسل ولا سياق وهذه طريقة شائعة وفهم تبسيطي لكل ظاهرة.
ليست ثقافة الوصم السياسية والاجتماعية Soscial Stigma
السائدة منذ القرن الماضي ثقافة تحليل وتفكيك وغوص في الظواهر بل ثقافة وصم،
والوصم لا يحتاج الى ثقافة وموهبة وكفاءة، بل يحتاج الى غوغأة وصبينة والى شخص منزوي في غرفة لا يعرفه فران الشارع ولا زبال المنطقة، ويطلق النار شمالا وجنوبا وفي كل الاتجاهات ولا تفهم منه هل هو يعبر أم يبعرر؟ مع الفارق بين الحق في التعبير والحق في التبعير، ولو حشدت كل طاقتك في التفكير لا تفهم هل هو يقول أم يبول؟
حسب علماء النفس كشفت صفحات التواصل ثلاثة انماط بشرية كانت مختفية في السابق: السيكوباتيين والنرجسيين الخفيين وعقد الشعور بالدونية وهذه العاهات تظهر عكس حقيقتها كأفكار وآراء ووجهات نظر وهي أقنعة مخادعة.
في إستطاعة أي أحمق منسي من نفسه ومنفي من ذاته ومطرود من عقله ومن ذاكرة سوية أن يحرف أي قصة وحكاية وقطعها من السياق العام وإضافة أو حذف تفاصيل لكي تصبح مقنعة ويتحول العنوان الى حقيقة وتختفي كل التفاصيل الهائلة المتشابكة التي صنعت الحدث والشيطان في التفاصيل كما يقول المثل. يركض الغوغاء والقطيع والملقنون خلف العناوين العامة لانها في المتناول في حين يحتاج البحث عن التفاصيل مشقة وجهدا وفكرا وعقلانية لا تتوفر في هذه الاصناف المستقيلة عقلياً المتبرعة بعقولها للغير.
وكما قال ألبرت آينشتاين:
” يستطيع أي أحمقٍ جَعل الأشياء تبدو أكبر وأعقد، لكنك تحتاج إلى عبقري شجاع لجعلها تبدو عكس ذلك “،
لان خيوط القصة الجديدة متشابكة متداخلة مثل كرة صوف يلعب بها قط وفي كل لحظة تخرج عشرات الرؤوس. وفي هذه الحالة كيف يمكن تفسير الهراء بالمنطق على قول نيتشه؟
قبل نيتشه قال سواق العراق القدماء الحكماء المثل المشهور في الكراجات:
” السفالة علم”
أي تحتاج الى حبكة ومهارة ونسج وتسويق وجمهور لا يفحص ولا يشك ولا يسأل عن احتمال قصة مختلفة وهذه خاصية العقل المستقيل، مجرد وعاء فارغ للاملاء والتلقين.
هو عطب ثقافي ومعرفي بلغة الانشاء السياسي المستهلك على شكل وجهة نظر. قبل الاحتلال كانت تهمة الأحزاب إما عميل للنظام أو منحرف كما لو ان الحياة خلت من الاوصاف او ان الجميع بين آلهة وأبالسة.
كل الاحزاب مارست هذه النجاسة ولقنتها الى أجيال، قتل جسدي وأخلاقي،
وهي لا تخص أفراداً فحسب بل تتعدى ذلك الى وصم مجموعات عرقية ودينية وثقافية وقومية وحرفية وخلق صورة
نمطية سلبية مقولبة لتبرير العدوان عليها أو محوها
كالزنوج والغجر والهنود الحمر وحتى الهنود السمر اليوم وأصحاب حرف معينة وطوائف واقليات في سلوك مصنف كعنصرية في كل قوانين العالم وثقافته واعرافه.
في لقاء متلفز قبل سنوات لبروفسورة نرويجية عنصرية قالت ان على الدولة ان تقوم باخصاء العرب هنا وقبل نهاية المقابلة كانت الشرطة في انتظارها وقدمت الى محاكمة وسجن 6 شهور،
ولا تعرف هذه المريضة ان بعض العرب لا يحتاجون الى خصاء جسدي لانهم في خصاء أعظم: الخصاء العقلي Castration Mintel، أي العقم عن التفكير والاجترار وغياب المرونة العقلية وذهنية الابيض والأسود والحرن والعناد على انه من ” الثبات المبدئي” ولو كان غرز الحوافر في الارض عناداً مبدئياً، فيمكن اعتبار جميع حمير الوطن مبدئيين.
ثقافة الوصم والمعارات الصبيانية لم تتطور، لكن في الزمن الجديد لم تعد تهمة العمالة مخجلة او موجعة وصار لصوص وخونة يطلون علينا من محطات التلفزة يتحدثون عن بطولاتهم في السلب والنهب أمام جمهور يضحك على نفسه، مع سرديات لصوص وقحة،
في حين يعجز أي عاشق أو عاشقة عن كتابة خاطرة حب بلا مشقة.
النظام، في الفكر الحديث، ليس مؤسسة حاكمة فحسب بل ذهنية ولغة وهذا التسطيح العقلي والثقافي هو هدف كل سلطة التي صحرت الانسان من الداخل بحيث يعتقد ان فقاعات البحيرة هي القاع .
بعد زمن الاحتلال تحول تافهون ولصوص وحثالات حانات رخيصة الى أطباء في علم النفس في صفحات التواصل، لكن بلا فحص ولا سرير ولا عيادة
ولا رؤية وجه المريض ولا سماعة ولا حتى طبيب بل التحليل عن بعد وعبر القارات بل عن طريق الخفة العقلية،
مع أن فرويد عالم النفس الشهير إستغرق خمس سنوات في تحليل حالة ” دورا ” في فحص ومقابلات وغوص ولم يصل الى نتيجة.
من لم يمرض في المذابح المستمرة هو إما منتفع وجلاد أو صفيق بوجه صفيح ماتت فيه كل المشاعر والاحاسيس العميقة.
تمرض الزهور والاشجار والحيوانات والحشرات لو حُشرت في بيئة خانقة وغير مناسبة، حتى الأرض تمرض.
لماذا لا نطور تهمنا في الاقل بعد أن عجزنا عن تطوير أفكارنا وقناعتنا ومعاييرنا؟
لماذا لا نقول مثلاً إن فلاناً لا يملك الحس الموسيقي وجلف المشاعر وهي تهمة تصيب الانسان السوي بالجنون في مجتمع عادل وواضح، وقد يلجأ للمحاكم ؟ أو نقول إنه بلا إهتمام بالطبيعة وأحاسيس سطحية؟
أو لا يتضامن مع ضحايا؟
لا يستطيع هؤلاء إقناعنا بذكاء أو ثقافة أو موهبة، وكل ما نخرج به من خلاصة هو انهم جزء من خطاب السلطة، لأن كل سلطة هي خطاب ولغة،
وغالباً ما يتكلم معارضو السلطة بلغتها في الاختزال والوصم والسطحية،
والادانة والتجريم،
دون تحليل الظواهر والغوص فيها لأن الغوص يتطلب موهبة وجرأة وكفاءة،
في حين لا يحتاج الوصم الى ثقافة بل الى فكر الثنائيات والابيض والاسود والخير والشر،
كما لو أننا لم نغادر العقل المانوي الثنائي Manichaeism، الذي ظهر في بابل بعد الميلاد بقرنين 216 ب م في زمن العقل العلمي والمعرفي والتحليلي والخ،
وهو عقل تبسيطي يرى الظواهر من منظور النور والظلام والخير والشر،
في حين تكمن الحقائق في عالم مركب اليوم في المناطق الرمادية،
وبهذا المنظور كانت الاحزاب العراقية جميعاً وما تزال تنظر الى الآخرين،
الحليف والعدو والصديق والمختلف والمؤمن وغيره ، والثوري وغير الثوري والخ من منظار بندقية قنص،
كما لو أننا في عصور الكهوف والغابات، ومدارس وعلوم ومناهج دراسة “خطاب السلطة” توغلت في الحجوم المجهرية،
واعتبارها سلطة كالأسرة والمدرسة والمؤسسة والأحزاب والقبيلة والحي والشارع والنادي ،
فليست السلطة جيشاً وشرطة فحسب بل عقلية ولغة وطريقة تفكير
وقوالب ونظرة عامة للحياة حتى في التفاصيل الصغيرة.
فلماذا الانبهار والغضب والسخط من ظاهرة التنمر والعدوانية والشراسة والوقاحة في بيئة سياسية واجتماعية تنتج هذه العاهات وهؤلاء المعتوهين؟
لا يتوازن الانسان بالنصائح والمثل العليا والحكمة اذا كان الواقع نفسه ضد كل هذه القيم بل أنتج قيماً نقيضة لها وحسب عالم النفس والفيلسوف اريك فروم لا جدوى حتى من العلاج اذا كان المريض خرج سليما وعاد الى المكان الذي أنتج المرض.
صار الشر الجديد ليس نقيض الخير فحسب بل نقيض الشر القديم، حتى الجهل اليوم لم يعد الجهل القديم وعدم المعرفة بل صار الجهل هو المعرفة الشريرة والتخطيط للشر، في زمن انقلاب المعايير وتطبيع العاهات.
كل السجون تهرم وتشيخ وتنهار يوماً، إلا السجون العقلية التي خلقت المجتمع على شكل معسكر أسرى، أو المجتمع المستشفى الذي تحولت فيه الأغلبية الى علماء في الطب النفسي وفي التحليل وفي الوصم وفي الاحتراب يتصادم فيه الناس في الشوارع كسكارى في غرفة مظلمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى