د.محمد إبراهيم العشماوي يكتب :المرأة والغزل في شعر شيوخ الجامع الأزهر .. الشيخ الشبراوي نموذجا!

أكثر من تولوا مشيخة الأزهر قديما؛ كانوا من المبدعين في شتى العلوم والفنون، فقد جمعوا بين العلوم النقلية والعقلية، ومنهم من برع في الطب والفلك والفيزياء والرياضيات – كما تطالعه في تواريخهم وتراجِمهم – وقلَّ أن تجد منهم من تخصص في فن واحد؛ وذلك لأن المنهج العلمي الذي سلكوه كان من المتانة والتوسع بحيث يبني علماء مبدعين في شتى المجالات!
على أن أكثرهم كانوا شعراء، وهذا في ذاته ليس بمستغرب، فالشعر أولا موهبة، يختص بها الواهب من يشاء، ثم تصقلها الدُّرْبة!
ولكن المستغرب حقا أن يقولوا الشعر في الغزل، إذ الأزهر منبع العلم والأخلاق، والغزل قد ينافي الخلق الحسن؛ لأنه تشبيب بالمرأة، حقيقة كانت أم خيالا، وقد كتبتُ قديما في هذا المعنى أقول: “إن الشاعر الأزهري مرسل بالطبيعة، ملجم بالشريعة، كلما أطلقه الشعر؛ قيده الشرع!”.
وهذه من خصوصيات شعراء الأزهر المحافظين، دون هؤلاء الذين ذابوا في تيارات الحداثة منهم، فأصبحوا لا يعبرون عن منهج الأزهر الأصيل!
ولكني أكشف لك النقاب عن سر غرام بعض شيوخ الأزهر بالمرأة، وتفننهم في التغزل بها، حتى لكأنهم شباب مراهقون!
فبعيدا عن التفسير القديم لافتتاح القصيدة العربية بالغزل، وهو أنه كان تقليدا متبعا عند الشعراء، حتى إنه ليروى أنه صلى الله عليه وسلم استمع – في المسجد، من غير نكير – إلى قصيدة كعب بن زهير في الاعتذار إليه، وقد افتتحها بالغزل:
بانتْ (سعادُ)، فقلبي اليومَ متبولُ
مُتَيَّمٌ إِثْرَها، لم يُفْدَ، مكبولُ!
وقد سُميت بافتتاحيتها (بانت سعاد)، وعارضها كثير من الشعراء، وشرحها شيوخ أزهريون وغيرهم!
إلا أن هذا التفسير لا يتماشى اليوم مع تناول شعراء شيوخ الأزهر للغزل، ولكن التفسير اللائق هو أن شيوخ الأزهر بشر، ما هم بأنبياء معصومين، ولا بملائكة مطهرين، ولكنهم بشر تقودهم العواطف، وتحركهم الأحاسيس، وتصنعهم التجارب!
فهل حلَّ الحب للبشر، وحرم على شيوخ الأزهر؟!
كلا، وألف كلا، ومن أحب حمله الحب – لا محالة – على التغزل بالمحبوب، فقد يكتم، وقد يصرح، وقد يلمح، وقد يدندن، وقد يحمحم، فإن فاض به الكيل طفح، وما على العاشق ملام!
لقد صرح ابن حزم في كتابه الأعجوبة (طوق الحمامة) بما يخجل منه أهل المروءة فيما يخص علاقة الرجل بالمرأة – وهو الفقيه الكبير، والعالم النحرير – حتى قال لي أستاذنا العارف بالله الشيخ عبد السلام أبو الفضل: “ليته لم يصنفه؛ فإنه غضَّ كثيرا من فضائله!”.
وأنا أقول: “لقد كشف به ما كان مستورا من أحوال العلماء، وما أراه إلا بوح عاشق، عجز عن حمله، فألقاه!”.
ولما اطلعت على ديوان شيخنا الإمام محمد زكي الدين إبراهيم، رائد العشيرة المحمدية – وكنت قد تشرفت بمراجعته قبل طباعته – رأيت فيه (غزليات)، لكنها نُسجت بخيوط العفة، وكُسيت بأثواب الطهارة، فكنت أتعجب له كثيرا، كيف لهذا العالم الرباني أن يتغزل، وإن كان الغزل عفيفا شريفا؟!
وهكذا أكثر شيوخ الأزهر، إذا تغزلوا لم يتهتكوا، مع أنَّ أرَقَّ الغزَلِ المتهتكُ!
وقلَّ أن تجد شيخا أزهريا إلا وله تجارب في العشق والغزل، ولكن يمنعه من البوح بها التصوُّن، وكونه في موضع القدوة!
ومن ألطف ما قرأت في الغزل وأرَقِّهِ؛ قول الإمام الأكبر، الشيخ عبد الله الشبراوي، شيخ الأزهر الشريف – كما في ديوانه -:
وَلِي فيك يا هاجِرِيْ صَبْوَةٌ
تَحيَّرَ في وَصْفِها كلُّ صَبّ!
مَتى يا جميلَ المُحَيَّا أَرَى
رِضَاكَ، ويَذْهَبُ هذا الغضبْ؟!
أشاع العَذُولُ بأني سَلَوْتُ
وحقِّك يا سيدي قد كذَبْ!
ومِثْلُكَ ما ينبغي أن يَصُدَّ
ويَهْجَرَ صَبًّا له قد أَحَبّ!
أُشَاهِدُ فيك الجمالَ البديعَ
فيأخذُني عند ذاك الطَّرَبْ!
وقد بلغ من جمال هذه القصيدة وحلاوتها؛ أن غَنَّتْها السيدة أم كلثوم!
وكلما حلا الغزل، وعظم أثره في نفس سامعه وقارئه؛ دلَّ على أنه قد صدر عن معاناة تجربة؛ إذ المعاناة توقد الشعور، وتلهب الإحساس!
ومن ألطف وأرَقِّ ما كتبتُه في الغزل، وفيها روح الشبراوي في قصيدته تلك، وقد كتبتها قبل أن أطَّلع على قصيدته:
أيا دارَ الحبيبِ لقد أتيتُ
فما شَبِعَ الفؤادُ ولا ارْتَوَيْتُ!
أُقَلِّبُ في وجوه الناس عَلِّي
أَرَى وَجْهَ الحبيبِ فما رَأَيْتُ!
فيا حُبًّا تَغَلْغَلَ في ضميري
وما عنه انثنيتُ ولا ارْعَوَيْتُ!
مَتَى تَصْفُو الليالي يا حبيبي
وأَدْرِي مِن حديثك ما رَوَيْتُ!
وتَسْرَحُ في رياض الأُنْس روحي
وأبلُغ من وِصالك ما اشْتَهَيْتُ!
أَقِمْ بشرابِ وَصْلِكَ ضَعْفَ قلبي
فقد ثَقُلَ الهوى حتى انْحَنَيْتُ!
أقول وقد تَساءَلَ كلُّ صَبِّ:
هو الجاني عليَّ وما جَنَيْتُ!
وفي الشهر المحرَّم قد سَبَاني
وشدَّ شِبَاكَهُ حتى ارْتَمَيْتُ!
رمَاني في الهوى بِسِهَامِ لَحْظٍ
وأَكْفَأَنِي عليه فما اكْتَفَيْتُ!
ويبكي إنْ ضحكتُ – فِدَاهُ رُوحي –
ويضحك إنْ حَزِنْتُ وإن بَكَيْتُ!
طبيبٌ في يَدَيْهِ دَوَا جروحي
ولكنْ قد أَبَى حتى انْتَهَيْتُ!
غزالٌ شاردٌ أَصْمَى فؤادي
فما دُووِيتُ منه ولا اكْتَوَيْتُ!