الغريب….قصه قصيره بقلم إبراهيم عبد الكريم

دقائق معدودة بعد عودته إلى البيت، رن جرس الهاتف دون توقف، نظر عماد إلى الساعة المعلق على الجدار، فكانت تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل، عاد متعبا من العمل، كان قد قضى أربع ساعات في إجراء عملية جراحية لأحد مرضاه المصاب بمرض مزمن في جسمه. ظن أن الهاتف من زميله الطبيب ليطمئنه على صحة مريضه، لكنه تفاجأ بكون رمز المنطقة الخاص بالرقم آت من الخارج، من المغرب، تسارعت نبضات قلبه وارتجفت أنامله، قبل أن يحمل السماعة، خمس سنين لم يزر عائلته في الوطن، انقطعت عنه أخبار أبيه وإخوته.
تخرج عماد من كلية الطب في باريس، بعد أن حصل على شهادة الدكتوراه، قادما من المغرب وفي جعبته شهادة الباكالوريا بميزة حسن جدا، حصل بموجبها على منحة فرنسية. تابع دراسته بجدية وتفان. كما استمر في تكوينه للتخصص في أمراض القلب والشرايين.
اقترب من الهاتف وهو يردد في قرارة نفسه:
-” الله يسمعنا اسماع الخير”
ارتعش جسده من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه، أصيب بالذعر، فخيم سكون شامل داخل الغرفة، إلا دقات الساعة الجدارية التي لم تتوقف، رفع سماعة الهاتف، سمع صوت رجل يقول له:
” السلام عليك أخي عماد”
في البداية لم يتعرف على صوت أخيه، إلا أنه استدرك الموقف بضحكته الودودة، حين شعر بجدية لهجة أخيه الحزينة، حين قال:
-” أخي عماد، ماتت أمي”
ثم أضاف:
-” إشتد عليها المرض، و فقدت وعيها منذ يومين، وعصر اليوم، فارقت الحياة، نحن في حاجة لحضورك معنا في هذه المحنة.”
بذل كل ما بوسعه لكي يرد على أخيه، وهو يهمهم بورع طالبا من الله الرحمة والمغفرة لوالدته، انعقد لسانه، ولم يضف كلمة واحدة، وقد فاضت عيناه بالدموع، استرخى على فراشه.
…وتهاوى برأسه على وسادته قبل أن يحلق بذهنه ويسافر إلى مسقط رأسه، ليرتمي في حضن الذكريات برفقة والديه، تخلت عنه الكلمات وبدا كالاخرس، تائها، في الوقت الذي كان يظن فيه نسيان البلد ومن فيه، كم كان يمقت التفكير في ماضيه المؤلم، مع زوجة أبيه الثانية، لكن،
“تأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن”، عاد الماضي ليشل تفكيره، استحضر مرض أغلى مخلوق على وجه الأرض، مرض أمه، معاناتها وإخوته، بعدما تزوج والده بالخادمة التي كان يفترض أن تعتني بأمه، وتؤازرها في محنتها، أو على الأقل هذا ما قاله والده قبل الزواج بها.
بدأت صور الماضي تنساب أمام عينيه، فسرت في أوصاله رعدة، فاحتدمت الأفكار في رأسه، فظلت صورة أمه ماثلة أمامه طوال الليل، فدب اليأس إلى قلبه، فأصيب بالأرق، نهض من فراشه، فخطا خطوات وئيدة نحو شرفة الغرفة، حيث بقي مستيقظا إلى أن نسج الفجر أولى خيوط الضوء، فخرج مسرعا من بيته، فامتطى سيارة أجرة كان قد حجزها في الليل، توجه إلى مطار شارل ديغول، دون أن يحلق ذقنه، لكنه بمجرد ما أقلعت الطائرة، شرد بذهنه، فتراءت مشاهد من الماضي أمام عينيه، وغاص في ذكريات أمه التي فقدها
و تذكر اليوم الذي أخبرها فيه الطبيب بمرضها المزمن، فارقها طعم الحياة، و امتقع وجهها، وشحبت. لا من طبيب يستطيع فعل شيء لعلاجها، اللهم إلا صيحات العائلة، والكل يردد، عبارة::
هذا قدر الله”
كان الحدث سببا في أن يكد ويجتهد لولوج الطب والتخصص في أمراض السرطان.
بمجرد وصوله إلى مطار انكاد، فوجئ بالحر الشديد، وتجاوز الحرارة درجة الأربعين، في الوقت الذي ترك فيه الأمطار تتهاطل بغزارة في باريس، يبدو أنه قد نسي البيئة التي عاش فيها قبل الهجرة إلى فرنسا، كل شيء تغير منذ آخر مرة مر من هنا، رممت الطرق وكثر العمران، إلا الكلاب الضالة ما زالت تتكاثر، وباتت تشكل خطرا على الساكنة. حين وصل إلى شارع منزلهم، تسمر أمام عتبة الباب لعدة دقائق، ذرفت الدموع من عينيه وانهمرت فوق وجنتيه،
حين دلف إلى داخل منزلهم، أو ما تبقى منه، تشنج وجهه و تعمقت تجاعيده، لرؤية بيتهم، لا شيء في مكانه كما كان في عز وشباب والدته، بحث بصمت عن الطاولة الكبيرة التي كانت تملأ وسط الغرفة، لكنها اندثرت، كانت تستعمل في تلقيه واخوته الدروس الدينية و إنجاز واجباتهم المدرسية على يد والدته، امتقع وجهه واغرورقت عيناه بالدموع وهو يردد في قرارة نفسه قوله:
-” الله يرحمك يا امي”
حلق بعينيه يسرة ويمنة، وكأنه يتبع طيف أمه من مكان إلى آخر، تنظف بيتها، وتركض بين الغرف والمطبخ في طهي الخبز والطعام دون كلل، تذكر نصائحها التي كانت تسديها له ولاخوته، ما زال يتذكر ما قالته له قبل أن يشد الرحال إلى فرنسا للدراسة:
-” ليس أمامك يا بني إلا الكد المضني لضمان مستقبلك”
كانت المرحومة تشدد على ضرورة احترام الغير، ترك رحيلها في نفسه لوعة لم يقو معها على النسيان،
قبع في مكانه يرسل نظرات باردة متجهمة، أحس بالغربة بين اناس لم يسبق له معرفتهم، سرعان ما أثارت فضوله صورة جدارية تخلد ذكرى زواج والديه، كان يتفحص صورتهما بحسرة، ينظر إلى والده، في عز شبابه، أبوه الذي نذر حياته من أجلهم، وإلى أمه، رفيقة أبيه في الحياة لمدة فاقت الثلاثين سنة، المرأة التي أحبها وأحبته، التي كان يحترمها وتحترمه، التي كانت تقرأ نواياه قبل أن يفصح عن ما يخالجه.
– “كم الحياة صعبة ومرة، حين تفقد اعز انسان لديك”، هذا ما ردده في نفسه، إلا أنه وجد نفسه غير قادر على القيام بأي حركة، ولا النبس بكلمة واحدة، انقبض قلبه، وهو يتلقى التعازي من الحضور، القادمين من كل حدب وصوب، على حين فجأة، أفرغ كأس الشاي في جوفه، ثم نهض مطأطئا رأسه، وتناول معطفه، وخرج من الغرفة محتدما، دون أن يحدث أحدا، كان يهمهم في قرارة نفسه:
-” ما زال المكان يضج بذكريات مؤلمة”
بدا له المنزل معتما، يشبه الكهف المهجور، تذكر المعاناة التي عايشها فيه بسبب المعاملة السيئة التي عاملته بها زوجة أبيه، قبل هجرته إلى فرنسا، وقد تركت بصمات داكنة في قلبه.