حمزه الحسن يكتب :رحلة خلف الواقع

وكما تعلمون إني أمقت وأحتقر ولا أتحمل اي كذب، ليس لأني أكثر استقامة من بقية منا، لكن ببساطة لأن الكذب يرعبني. ثمة مسحة من موت، طعم من الفناء في الكذب،
وهذا ما أمقته وأحتقره في العالم وهو نفسه ما أود نسيانه، لأنه يجعلني تعيسا ومريضا كما يسببه تناول طعام عفن فاسد ــــ جوزيف كونراد. رواية” قلب الظلام. أطروحة أدوارد سعيد للدكتوراة من جامعة هارفرد.
تعال ندخل هذه العتمة الباردة لكي نرى في الظلام العميق،
دعك من الخطابات والشعارات والاحتفالات والصور لانها تحجب وتخفي أكثر مما تظهر،
تعال نعرف الواقع الحقيقي المتواري لكي نكف عن الاوهام والسطحية ومنظومات التبسيط والاختزالية والخداع الذاتي الذي تفرضه لغة السياسة المصممة على الكذب ونرى الواقع بعيون أخرى لكي نتحرر معاً من أوهام الواقع المتنكر.
الواقع ماكر ومراوغ وخبير أقنعة وعلماء الاجتماع والنفس يعرفون كيف يمكن ترويض الناس
من خلال خلق” الواقع الزائف” الظاهري لكي يصدق الناس ان هذا هو الواقع.
لماذا مثلا كانت الصور والجداريات والتماثيل للطاغية في كل مكان
وصوره مكررة كل يوم في الصحف؟
لكي يشعر المواطن ان الواقع المزيف هو أبدي وهو الترويض” الناعم” واذا فشل هناك” الترويض الخشن” كالسجون ونظم العقاب وما شابه لكننا رأينا جميعاً كيف تهاوى الواقع المزيف كلعبة الدومينو لانه غير حقيقي ومبني على الخوف والكذب والقوة.
اليوم تتكرر دورة” إخفاء الواقع الحقيقي” وخلق المزيف بالطرق نفسها.
كيف انهار الجيش الافغاني بسرعة وقد انفقت عليه الولايات المتحدة
اكثر من 83 مليار دولار؟ كيف انهار الجيش العراق والسوري والروماني زمن تشاوسكو في ساعات مع اجهزة امنية باطشة؟
لا يمكن، مع توفر إرادة حية، خلق الواقع المزيف لزمن طويل. عندما تتحرر أنت من قيودك الداخلية وهي الأصعب من الخارجية،
سيكون تحرري إكتمل كثيراً لأننا شركاء في الأرض والوطن والهوية والتاريخ والمصير والمستقبل،
وسواء كنت معي أو ضدي لا خلاص لنا من المكاشفة، لأننا في قارب واحد ولن تنجو بغرقي.
والآن إستعد لرحلة في الظلام: كيف عرفت هذا المجتمع؟
سؤال مكرر لكن الاجابة محيّرة وقاسية ويوم قيل للروائي الروسي مكسيم غوركي كيف عرفت الألم، كشف لهم ظهره والندوب يوم كان حمالاً، ليس من الكتب بل من القسوة والألم والوجع والرؤية الصافية.
أمام الأعزل يتعرى الجميع . تختفي الاصباغ والقيم والقشور وتظهر المخالب والانياب، وتظهر الغطرسة في مجتمع يقدس الصيت والجاه والقوة وليس الكفاءة والموهبة.
عندما تكون بلا حول ولا قوة ولا مال في مجتمع محارب، بلا حزب ولا جاه،
يظهر لك الوحش المختفي. عندما تكون وحيداً، تصبح وليمة للجميع.
نحن نخاف القوة ولا نحترم:هذا الخراب قديم، لكنه كان مغطى بقسوة الدكتاتورية.
كنا نراه نحن يتامى التاريخ والفرح ونرى العري الفاجر الذي يُستعرض أمامنا،
بوقاحة ولا أحد يحفل بأحزان وأوجاع المطرودين من المجتمع والمسرة والضحك والرغيف والبيت الآمن،
وعرفناه أكثر يوم عرفنا ثقافة بديلة مضادة، وصار اليتم مركّباً:
يتم المجتمع ويتم الوعي البديل.
هذه الجيفة كانت مغطاة بالقوة والرعب، الآن رُفع الغطاء عن الجيفة،
فظهر الممنوع والمقصي والمحظور والمكبوت. نحن لم نتغير، بل هي أقنعة سقطت.
من يقول ذلك هو ببغاء مُلقّن وتربية شعارات الجدران، وبرامج الأحزاب أو منتفع أو غشيم.
مجتمع كبست عليه الدكتاتورية سنوات، وعفنت الرغبات والمشاعر والنفوس والعقول. الآن طفح الملغي والمؤجل. لا تتغير الشعوب عندما تنام في الليل
وتستيقظ في الصباح، وهي على حال مختلف.
المجتمع الأصيل والقوي والمتماسك يبقى ثابتاً وقوياً وراسخاً عند الإحتلال:
فرنسا تحت النازية، روسيا، النرويج وغيرها. المجتمع الخاوي،
ينهار في الإحتلال كما تنهار الجدران الخاوية مع الزلزال والعاصفة والمطر.
ليست الضربة قوية، لكن البناء هش. لكي يتخلص الإنسان من عادة خارجية كالتدخين مثلا، يحتاج الى زمن ومشقة وقد لا ينجح،
فكيف ينقلب مجتمع بسرعة وينسف كل تقاليده وقناعاته وقواعد حياته
لو كانت القيم والمبادئ والتقاليد راسخة وعميقة؟
شبكة القيم التي تتبخر في أيام، هي أقنعة وعلاقات عامة ومبادئ مزيفة ملصوقةبصمغ الخوف.
الأشرعة القوية تثبت في العاصفة، القوارب المتينة تصمد في وجه الموج،
ليست الأشجار من يقف في وجه الريح، بل الجذور،
الجذور العميقة تبقى ثابتة، والخاوية تطيح.
ظلم الأنظمة عبر عصور جعلنا أقنعة وممثلين ومهرجين وجوقة ردح.
كانت الدكتاتورية تغطي الانكشاف، فنزل الناس الى السراديب النفسية،
الى القيعان العميقة في الذات، والآن رُفع المكبس.
تغيِّر الشعوب ليس مثل تغيير أثاث حانة، أو مقهى، أو كازينو،
اليوم تغيرت أسماء الشوارع، عناوين الصحف والمحطات،
أسماء الأحزاب وأرقام الهواتف،والشركات والشعارات،
لكننا لم نتغير.
حكم الاتحاد السوفيتي الناس عشرات السنوات، لكن أم الرئيس الأخير غورباتشوف كانت تخفي الكتاب المقدس خلف صورة في جدار.
سقطت الاندلس، لكن المسلمين ظلوا يصلون في المنازل،
وفي الشارع كانوا مسيحيين.
سقطت الجاهلية قبل أربعة عشر قرناً، لكننا نمارس حتى اليوم تقاليدها
في الثأر وكراهية ولادة الانثى والمعارات والعصبية القبلية والقمار والسلب ونزعة الانتقام…والخ.
العراق لم يتغير بعد الاحتلال، هي وجوه مختفية ومتوارية ومقنّعة،
لكنها اليوم بوجوه حقيقية خارج الحفل التنكري الطويل.
هذا المجتمع سيظل ينتج الطغاة، لكنه يُصدم بهم، كما تُصدم أُم بولادة مسخ.
السلطة السياسية نتاج السلطة الاجتماعية وليس العكس، لأن الأخيرة هي الرحم والمناخ والبيئة والثقافة.
كيف عرفت هذا المجتمع؟ عندما تكون يتيماً ــــــ بلا ولاء لأحد ــــــــــ وخارج القطيع، سترى في الظلام بوضوح،
وعندما تكون يتيم اللغة والوعي والثقافة ومختلفاً، وبلا مصلحة ولا تحزب،
سترى بوضوح أكبر وبصفاء مشع.
ستكون يتيماً وغريباً في حفل التشابه والتطابق والتناسخ،
غربة ويُتم طائر كناري في حقل الغربان: يتيم الشكل ويتيم النوع.
وحيد وأعزل ومختلف وهامشي وحدة نجم مشع في الظلام ، لكنك الباقي الأخير يوم يهدأ التاريخ من عربدته. عندما تنزع الأيام أقنعتها وترى في الظلام،
وعندها ستبصر ما لا يبصرون وتسمع رنين أجراس مخبوءة في ضباب الأيام لأعياد مؤجلة.