شريف يونس يكتب :لما مناخير كليوباترا تكتب التاريخ

في البوست اللي فات قلت إن فيه على الأقل رأيين في مسألة تأثير جاذبية كليوباترا على تاريخ منطقة البحر المتوسط. على المستوى المنهجي، حاناقش الرأي اللي بيقول إن التاريخ ما هو إلا مجموعة من الصُدَف اللي العلاقات بينها بتحصل برضو بالصدفة. مافيش عقل ولا منطق. ودي النتيجة اللي مترتبة على ملاحظة إن عشرات الآلاف أو أكتر ماتو في معركة أكتيوم ومعارك تانية كتير بسبب انجذاب أنطونيو لكليوباترا. وحتى الاتنين دول ماكنش قصدهم يوصلو لكدا. وقيسو على دا الصدف الكتير اللي بتأثر على حياتنا.
التصور دا بينطلق من هشاشة الوضع الإنساني، اللي هو إن أي إنسان معرض للموت في أي وقت، وممكن لأسباب مالوش علاقة بيها. ولو مدينا الفكرة على استقامتها، حانقول إن أصلا أي إنسان اتوجد بالصدفة، بسبب صدفة جواز اتنين معينين ولقاء جنسي في لحظة معينة، والتلقيح ببويضة وحيوان منوي معينين بين ملايين الاحتمالات، إلى آخره.
يعني مش بس الأحداث التاريخية هي اللي صدفة، إحنا هنا قصاد “قانون” أو تصور عام عن طبيعة الوجود الإنساني (وحتى غير الإنساني)، إنه تراكم عشوائي من الصُدَف وبالتالي أي معنى حانتصوره للتاريخ هو مجرد وهم أو حاجة بنخترعها لأنها مفيدة (أو غير مفيدة أو مُضرة من وجهات نظر مختلفة).
العبثية دي (صدفية التاريخ والحياة عموما) بتكملها من الناحية التانية فكرة إنه “لا جديد تحت الشمس”. الشمس بتطلع كل يوم، بتلاقي ناس بتتولد وناس بتموت وناس بتكسب وناس بتخسر.. أمم بتنتصر وبرضو مسيرها تنهزم زي اللي قبلها. وباختصار كل ما يولد يموت في دورات متنوعة مالهاش معنى، والاختلافات اللي بينها برضو مالهاش معنى.
بناء عليه أي تصور عن التاريخ هو عبارة عن وهم أو حاجة بنضحك بيها على نفسنا، سواء كان التصور دا في منتهى الشمول زي تصور هيجل عن روح كلية كامنة في التاريخ بتخليه يتحقق من خلال مراحل، أو حتى التصور المتواضع أكتر بتاع توينبي اللي طموحه مقتصر على اكتشاف قواعد معينة بخصوص صعود وسقوط الحضارات (زي نظرية التحدي والاستجابة). أيا كان التصور، تحدي “أنف كليوباترا” بيسخر منه، بكل النتايج اللي شفناها اللي بتترتب على السخرية دي.
ولما كان أي تصور عن معنى للحياة والتاريخ وهم، وحيث إنه لازم يبقى عندنا تصور ما (علشان طبيعة دماغنا محتاجة تصورات عامة عن الوجود والحياة والجماعة البشرية وتاريخها)، يبقى المسألة براجماتية بحتة: نعمل التصورات “المناسبة”. مناسبة لإيه؟ لأهداف عملية.
من التصورات المتماسكة نسبيا، تصور هوبز: إن الإنسان كائن متوحش أناني، وعلشان يتخلص من الحياة الخطرة المتوحشة القصيرة، محتاج يعمل مع التانيين عقد اجتماعي، يتنازلو فيه عن سلطتهم وحريتهم في التصرف لواحد منهم يجمع كل السلطة في إيده، علشان يوفر لهم الأمن من خلال السيادة عليهم، اللي هما نفسهم اللي عرضوها عليه.
لكن التصور بتاع مناخير كليوباترا بيوصل لذروته عند الإخوة بتوع ما بعد الحداثة، اللي قالوا مافيش تصورات واقعية. كل التصورات عن التاريخ هي سرديات (قصص يعني)، وكل سردية قمعية لأنها بتستبعد سرديات تانية ممكنة، والسرديات التاريخية “مجندة” في الصراع دا. وكل واحد ينقي السردية اللي تتفق مع مصالحه (أو اللي تعجبه: يعني تتفق مع مصالحه السيكولوجية إن جاز التعبير). ويا إما كل الناس تقاتل كل الناس بسردياتها، أو يبقى فيه يوتوبيا مجتمع “محايد” بتتجاور فيه السرديات، لأن كل أصحابها عارفين إن سردياتهم اختراع، زيها زي بقية السرديات. فكله مشروع يعني.
أما غير المشروع فهو إن سردية ما (أو أكتر) تقول إنها هي المشروعة، أو هي الصحيحة، أو حتى ليها مصداقية أكتر من الباقيين. هنا بقى حايبقى عندنا والعياذو باللـه سردية قمعية.
فالفكرة هنا هي اعتبار إن “المعنى” في حد ذاته خطر، وأن الأمان يوجد تحديدا في العدمية المطلقة، اللي جاية من إن الواقع نفسه مالوش معنى، وكل المعاني مصطنعة نابعة من سرديات أو مرتبطة بيها.
ودي بالظبط النتيجة اللي ممكن نوصل ليها بطريقة أقل تعقيدا بتبني فكرة باسكال عن أثر مناخير كليوباترا الحاسم في التاريخ.