كتاب وشعراء

نورا… عنوان الضوء في عزلة العتمة* *قراءة في قصيدة “نورا” لأحمد عبداللاه– رؤية نفسية أسلوبية* كتب/ فضل صالح

*نورا… عنوان الضوء في عزلة العتمة*
*قراءة في قصيدة “نورا” لأحمد عبداللاه– رؤية نفسية أسلوبية*
كتب/ فضل صالح
*نورا… عنوان الحياة في عتمة الديوان*
حين يضع الشاعر أحمد عبداللاه اسم “نورا” لا على رأس قصيدةٍ فحسب، بل على غلاف ديوانه كلّه، فإنه بذلك لا يمنح النص مكانةً بلاغية فقط، بل يرفعه إلى مقام التمثيل الكامل لتجربته الشعرية والإنسانية.

“نورا” ليست قصيدة فقط، بل مفتاح داخلي للديوان كله. هي العتبة الأولى التي يُدخلنا منها الشاعر إلى عالمه، وهي البؤرة التي يتكثّف فيها إحساسه بالحياة والموت، بالحضور والغياب، بالضعف والحنين.
من هنا، فإن قراءة هذه القصيدة ليست قراءة جزئية، بل هي نافذة على الديوان كله، بل مرآةٌ للذات الشاعرة حين تتأرجح بين الانطفاء والتشبّث بما يُبقيها حيّة.

وفي لحظةٍ معلّقةٍ على خيطٍ شفاف بين الغياب والحضور، تنهض القصيدة “نورا” كوميضٍ خافت في عتمةٍ داخلية، لا يُرى بالعين، بل يُستشعر بالرُّوح. لا يقول الشاعر إنه يتألم، لكنه يكتب كما لو أن كلّ سطرٍ يُستخرج من حافة الغيبوبة، من تخوم الغرق في سديم لا شكل له…
وهنا، لا يعود الشعر مجرّد ممارسة جمالية، بل يصبح فعل نجاة، حيلة الروح الأخيرة لتُبقي نفسها على صلةٍ بالحياة.

“نورا” ليست فقط قصيدة، بل هي صوت نداءٍ داخلي يصدح في خفاء، من عمق العزلة، من ظلال غرفةٍ لم يكن فيها إلا الحُبّ ينبض.

*ليلٌ داخليّ… صمتٌ يتهدّل*
“اللّيلُ يَتركني وَحيداً”

ليست هذه استعارة زمنية، بل مفتاحًا نفسياً للنص. فالليل في هذا الموضع لا يشير إلى توقيتٍ خارجي، بل إلى الليل النفسي، حيث تتكثف العزلة وتتآكل الحواس.

إنها وحدةٌ لا ضوء فيها، تُصوَّر في مطلع النص كعري داخليّ، كغربة عن العالم وعن الذات. هنا، يتكشف أن الشاعر لم يكن في محيط اعتيادي، بل في حالة من الانفصال الهادئ الموحش، وكأنَّه على تخوم الإغفاء السرمديّ.

*الابنة… وجه البقاء الأخير*
“كلّما أغفو يَفيضُ دمي
أَصحو قليلاً كي أُقبّل وجه نورا”

ما بين الغفوة والفيضان، يحضر الدم لا كعلامة على الفقد، بل كإشارة إلى ما لا يمكن السيطرة عليه.

في هذا السطر المشحون بالصدق، نسمع صوت الجسد حين يفقد سيطرته، وصوت القلب حين يستدعي الحياة من جديد عبر وجه ابنته.

“نورا” هنا ليست مجرد حضور بصري، بل هي الصورة التي تشدّ الروح إلى السطح، تقطع بها الغفوة، وتوقظ بها حاسة الحياة.

*لمسة اليقين… اختبار الحضور*
“وتمرّ كفّي فوق خدّها
لأدرك أني ما زلت حيًّا”

إنها لحظة من أصدق لحظات النص. اليد تتحرك، لا لأن الشاعر يريد، بل لأن حب البنت أعمق من الوعي، وأقوى من السكون.

في اللمس، يكتشف أنه لم يُمحَ بعد من الدنيا، وأن ثمة أثرًا له ما زال دافئًا.
تبدو هذه الحركة الصغيرة أشبه بـ”اختبار وجودي” خفيّ، لا ليطمئن على نورا، بل ليطمئن أنّه لا يزال هنا، لا يزال يملك القدرة على التماس بالعالم.

*الحب حياة…*
“كم أحبّك يا ابنتي
وأزيد من مطري عليك”

لا يقول الشاعر “أعطيك”، بل “أزيد”.
إنه لا يقدم شيئا محدودا بل يستمر في البطولة فيضا لا ينقطع وكأنه يتماهى مع المطر؛ ليمنحها كل ما فيه من حياة.

الحب هنا لا يُعبّر عنه بلطف، بل يُمارَس على هيئة بذلٍ كلّيّ.
تنهال الصور لا لتصف العاطفة، بل لتنقلها إلى المتلقّي كفيضان، كغيمٍ يتكسّر كي تُروى به الأرض التي أحبّ.

*الأثر… الوصية التي لم تُكتب*
“كي ينبت الريحان فوق صباحك الآتي
كم أحبّك”

إن “الريحان” هنا ليس زينة، بل أثرٌ عَطِر، علامة باقية، ختمٌ شخصيّ على جبين الزمن.
الريحان لا يُزرع إلا لمن نحب، والصباح الآتي هو الغد الذي يتمنّى له الشاعر أن يكون أخضر، عابقًا، ثابتًا.

هذه ليست مجرّد أمنية، بل وصية غير مباشرة، رجاء مشفّر، وإعلان ضمنيّ بأنّ الشاعر لن يكون هناك، لكنه يريد أن تبقى رائحته في المكان.

*نورا… قصيدة أم مرآة للديوان؟*
حين اختار الشاعر أن يسمّي ديوانه “نورا”، فقد كشف للقارئ أن هذه القصيدة ليست مجرّد نص عابر، بل هي الجوهر الذي يدور حوله المعنى كله.

“نورا” ليست فقط أول القصائد، بل هي العتبة، المركز، العنوان، والوثيقة.
إنها ليست “قصيدة عنوان”، بل عنوان لقصيدة الحياة.
فيها نجد صراع البقاء، وفيها يُعلن الشعر عن وظيفته الأولى: أن يكون طوق نجاة.

*الشعر كحيلة ضد الفناء*
في هذا النص، لا نجد شاعرًا يصوغ الكلمات فحسب، بل نجده يقاوم بها، يتمسّك بها كما يتمسّك مَن يغرق بخشبة واحدة في بحرٍ داخليّ.

“نورا” ليست بنتًا فحسب، بل هي صورة الحياة التي أحبّها الشاعر كثيرًا، فتمسك بها، لا لتُحييه جسديًا، بل لتبقي أثره، صوته، رائحته في القصيدة.

هكذا كتب أحمد عبداللاه قصيدته:
لا ليُدهشنا، بل ليبقى.

كتبها كما تُكتب الوصايا، وكما يُرسَل الضوء من نجمٍ آفل، فيبقى طويلًا بعد أن يغيب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى