رؤي ومقالات

دراسة نقدية لمرشدة جاويش في نص الشاعر والناقد العراقي القدير عيال الظالمي العربات

تقول هيباتيا المصرية:(فهم الأشياء التي تحيط بنا هو أفضل إعداد لفهم الأشياء التي وراءنا) هكذا ابحرت بعرباتي محملة بياسمين سوريا هيباتيا اللفظ الماتع الدكتور(مرشدة جاويش) بعنوان:
(سفر العربات بين زمن الذاكرة وصيرورة الوجود)
دراسة نقدية حداثية في نص “العربات” للشاعر والناقد العراقي القدير عيال الظالمي
#الجميع.
النص:
(العربات)
من غابر الذكرى تجرُّ ذاكرتي
خيولُ العربات خيول لا تصهلُ أو تحمحمُ
حيث وطَّنت نفسها للصمتِ
ف(الغاوي) تعب من العمل المسلكي كشرطي
واختمرتْ بنفسه المدينةُ
فٱبتاع عربةً لحصانِهِ
وحين يغضبُ من الرُّكاب
يحذفُ عينَ (يعني) (يني) أنا خادم ؟
يبتسمُ الركاب حفاظاً عليه
الغاوي الشجاعُ يكرَهُ الانكليز
يكره البِزّةَ المبتورةَ ما تحتَ الرُّكبة
يكره الوجوه الحمراء المفلطحة
يكره الأمرَ بأقتيادِ العراقيينَ
فصار سائقاً مالكاً لجواده
هكذا هي خيلُ الشَّرَطة تُتعبُها المفازاتُ
وذات صباح على درب (ابوشريش )
تمطّى بعربةٍ أدْهمُ
وعلا الغضبُ ( الغاوي وحصانَه )
(جبري) ممسكٌ بعِنانِ الأدهمِ
والغبارُ يفرُّ من حافريه
فاعتاد الا يزيدُ الوزنَ
ويشاركُ الرُّكابَ سائقاً
أمضوا العمرَ يسيرونَ على الطُّرقات
هكذا توارثوا الابناءُ العرباتِ
حتّى فاضَ النهرُ
واهتزتْ الجسورُ القديمةُ خوفاً
وذات عبورٍ: (زنوبةُ) و ابو قايد واكياسُ طحين
فَزِعَ الحصانُ
استقبلَهم الموجُ حتّى الغرقِ
كانت تنادي ابا قايدٍ، أبا قايدْ .
وفي لُجَّة الفيضانِ اجابَها
الى (ماء العروس *)
حيث عُجِنتِ الأكياسُ
وامتلأتْ الاجواف
، وصَعُبَ التَّنفس.
منذُ عهد الرّمال على اكتاف النّهر
شُقًتِ الطُّرقاتُ على الجُّرفَينِ
في الجّيل الثالث للعربات
يحملُ (الشَّاكر) أمانةً من بُرتقال
أغرى البرتقالُ الطّفلَ البَدوي
إلتقفَ واحدةً فكان الشِّجارُ
فغرَّم جدّي نفسَه ثمن البرتقالِ والاعتداء
في عصرِ العربات
يجلسُ الشيوخُ قربَ الحصان
فقالوا :
( من يسوقُ الحصانَ لا يخجلُ عمّا يخرجُ منه )
العرباتُ سفنُ المُقتَدرينَ للمدينة.
لكنّ السوقَ يَستقبلُ رملَ اقدامِ الفُقراءِ ….

عيال الظالمي

#مدخل #منهجي :

تستند هذه القراءة إلى رؤية حداثية متعددة المشارب تتقاطع فيها أدوات التأويل مع أفق التفكيك والظاهراتية محاولة النفاذ إلى البنية الرمزية والدلالية لنص
/العربات / للشاعر عيال الظالمي فالقراءة لا تسعى إلى تثبيت معنى أحادي بل تنفتح على طبقات النص وتوتراته الداخلية عبر تفكيك الثنائيات الضمنية (السلطة – الحرية – الغرق – النجاة- الهامش-
المركز)
واستكشاف الدلالات المتحوّلة للرموز (العربة الحصان – الجسر -الماء) في ضوء وعي يتجاوز المجرى السردي إلى أبعاد الذاكرة والهوية والوجود
بذلك تقارب هذه الدراسة النص كحقل مفتوح للتأويل لا كسرد مغلق مستفيدةً من مرجعيات (الهيرمنيوطيقا) و(التفكيك والسيميائيات) دون أن تفقد صلتها بالمخيال الشعري والثقافي الذي يؤسّسُ لعالم /العربات/ كمرآة لصيرورة الداخل العراقي
#مقدمة #كمدخل #رؤيوي إلى نصّ /العربات/:
في طيّات النصّ الشعريّ
/العربات/ تتجلّى المدينة ليس كمكانٍ مجرد من الزمن بل ككيانٍ حيٍّ يسير في أروقة الذاكرة يحمل في أمتعته خيولاً بلا صوت وأشخاصاً مُجبرين على السكوت
هنا لا تقتصر العربات فقط على تغيير أبعاد المكان بل تتعدّاها إلى أبعاد الوعي والهوية حيث تصبح العربة رمزاً مركزيّاً لرحلة الإنسان في تقلبات السلطة وفي الصراع المرير بين الإنتماء والإغتراب بين الطموح والخضوع
العرباتُ في النصّ ليست مجرد مركباتٍ تسير على الطرقات بل هي سفنُ المدينة السفلية التي تشقّ مياه التاريخ الفجّية
تحمل أوزار الماضي وأحلام الحاضر المكسورة تجرّها خيول صامتة تخفي وراء صمتها كلّ الألم وكلّ الإحتقان الإجتماعي والطبقي
ف (الغاوي )ذلك السائق الذي خلع بزّته ليصبح حاملاً لوصمة الضعف والتمرد ليس سوى صورة مكثفة لإنكسار السلطة وعجزها ولقوى الحياة التي تستمر رغم الهزيمة
#هذا #النصّ يحملنا إلى عوالمٍ مائيةٍ من الفيضانات التي تبتلع البشر والسلع والأحلام حيث تلتقي حياة الفقراء ومآسيهم مع رمزية الماء الذي يمحو الحدود بين (الحياة) و(الموت) بين (الوجود) و(الغياب) في هذا السياق تُسبر في النصّ عوالم الفقر والطبقية حيث يُغرى الأطفال بالبرتقال ويُحاسب الجدّ على تمرده الصغير لتتجلّى السوق كمساحة تحكمها قوانين الإقصاء والاحتكار
#وبأبعادها #السيميائية والوجودية تدعونا /العربات/ إلى إعادة التفكير في تاريخ المدينة من الأسفل وتعيد كتابة ملامح الواقع من ظلاله حيث لا تشرق الشمس إلا على أرامل الغبار ورمال الفقراء وتختزل المسافات بين الأمل واليأس في عربة تسير بلا صهيل
#سيمياءُ #العربة #ومطر الذّاكرة تفكيك المهيمن في فضاء المدينة السفليّة:
يعيد نصّ /العربات/ تشكيل الواقع عبر استحضارٍ شعريّ سرديّ ذا طابع شعائريّ تتعالق فيه الذاكرة بالمكان وتنفرط عبره العلاقات بين السلطة والهوية في سياقٍ تأويليّ حداثيّ تترسّب فيه الدلالة لا على سطحِ الحكاية بل في تلافيفِ اللغة ومكرِ الإشارة وتحوّلات المعنى
#يبدأ #النصّ من عتبة زمنيّة مُواربة: / من غابرِ الذكرى/ حيث تستعاد الذات بوصفها أثراً يجرُّه الحصان في غياب الصهيل وفي حضرة الصمت حيثُ /خيولٌ لا تصهل أو تحمحم/ إيذاناً بانهيارِ الفعل الحرّ وتحلّله إلى مسار قسْريّ تسوقه العربات مثلما يسوق الحطام ماء السّيول
فالعربة هنا ليست مجرّد وسيلة للنقل بل هي دالٌّ مركزيّ يتكثّف بوصفه بُنية قيميّة تنتقلُ من المدلول الفيزيقيّ إلى البعد الأنطولوجيّ
العربة بوصفها حاملاً للذاكرة وعلامةً على الخضوع وسِفراً للفقر وساحةً للتاريخ الشعبيّ بل لعلّها تتقاطع في بنيتها الرمزيّة مع مفهوميْ (السفينة) و(التابوت) كأنّ كلّ عربة هي خلاص ناقص أو فلك خَرِبٌ أو نعش زاحف في طرقات المدينة
ومن ثُنائية العربة/الذاكرة تنبثق شخصية / الغاوي/
ذلك الكائن الهجين الذي تمرّغ في وحل السلطة (بوصفه شرطياً) قبل أن يخلع بزّته ويلبس عباءة المهمّش إنّ تحوّله من جهاز القمع إلى سائق عربة ليس تراجعاً عن السلطة بل هو فعل مضادّ يعيد من خلاله كتابة هويته المتصدّعة
فالغاويُ / يكرَهُ الإنكليزَ
يكرهُ البِزّةَ المبتورةَ ما تحتَ الرُّكبةـ يكرهُ الوجوهَ الحمراءَ المفلطحةَـ يكرهُ الأمرَ باقتيادِ العراقيين/ وهي سلسلةُ كره تنضح من باطنِ الذات المقهورة التي تمرّ عبر مؤسّسة الدولة ثم تخلعها تماماً كما يخلع الزيُّ النظاميّ
وفي هذا الخلع تستعيد الذات رمزها القديم
/الجواد/ غير أنّ هذا الجواد ليس جامحاً ولا صاهلاً بل منقادٌ مثل العربة تماماً كما أن الغاوي رغم امتلاكه للعربة
ما زال يُساقُ إلى ذاته السابقة
فحين يغضبُ من الركّاب يحذفُ / عَين/ (يعني) ليقول (يني) وهي إشارةٌ سيميائيةٌ تُحيل إلى السخرية من العاميّة من لغة الناس من منطق الخدمة وكأنّه يُحاول أن يترفّع عمّا صاره ولكنّه لا يقدر
وفي هذه الهوّة بين ما كانه وما آل إليه تتفتّح السخرية بوصفها آخر أشكال المقاومة إنّ الركّاب / يبتسمون حفاظاً عليه / فهم يدركون هشاشته لكنهم يحتفظون له بسلطة عاطفيّة إذ صار / الغاوي الشجاع/ الذي لا يخجل من أن يكون هشّاً محكوماً مقهوراً في لعبة التاريخ
#ويتكرّسُ #الخطابُ الحداثيّ في هذا النصّ حين يُقحم حادثةَ /أبو شريش/ بوصفها لحظةَ تفجّرٍ سيميائيّ فالغضبُ هنا ليس فقط في نفس الغاوي بل أيضاً في جواده والحصان لم يعد مطيّة بل صار شريكاً في الحنق ـ والغبارُ لا يعلو بل
/ يفرُّ من حافريه/ مما يمنح اللحظة بعداً سينمائيّاً دقيقاً تتجاورُ فيه اللقطة الطوليّة (حركة العربة) باللقطة الحميميّة (انفعالات الحصان) في توليفة تجمع بين التعبير الفلميّ والتحوّل النصّيّ
ثمّ ينفتح النصّ على /الماء/ بوصفه عنصراً تفكيكيّاً يبتلع العربةـ والحصان ـ والركّاب في مشهد الفيضان تُستدعى /زنوبة/ لا بوصفها اسماً عابراً بل رمزاً أنثويّاً
/خصبيّاً /فاجعاً تقود المشهد إلى تخوم الطقس والمأساة عبورها النهر مع / أبو قايد/ وحملها لأكياس الطحين
يربط بين الحياة (الغذاء) والموت (الغرق) وتتحوّل لحظة الفزع إلى سرديّة شبه دينية
حيثُ تنادي / أبا قايد ـ أبا قايدْ/ ويجيبها في الموت ـ في الغمر – في
/ ماء العروس/ وهو ماء يتقاطعُ في الإيحاءات بين ماء الغسل وماء الخصوبة وماء الدفن
في هذا المقطع تتفجّر اللغة إلى طقس:
/ حيث عُجِنتِ الأكياسُ
وامتلأتِ الأجوافُ
وصَعُبَ التّنفسُ/
فما يُعجن هنا ليس الطحين فقط بل الأجساد والهوية والمدينة كلّ شيء ذائبٌ في الماء كلّ حياة آيلة إلى الخبز أو الغرق – ولا نجاة
ثمّ ينقلنا النصّ إلى ما يسميه
/ الجيل الثالث من العربات/ حيث تبرز مفارقة طبقيّة حين يُغري البرتقالُ /الطفل البدويّ/ فيلتقطُ ثمرة ويغدو هذا الفعل الصغير اشتباكاً وجوديّاً مع الملكيّة ـ مع النظام الاقتصاديّ – مع السوق
فيدفع الجدُّ ثمنَ البرتقال وثمن الاعتداء وهو اعتداء لا على الآخر بل على الحدود التي رسمها السوق بين الفقراء والمتروكين
وهنا تتجلّى #بنيةُ #التناصّ الحداثيّ مع الخطاب (الفوكويّ) حيثُ السوق لا يبيع فقط بل يحدّد من يستحقّ التذوّق ومن يحاسب على اللمس ومن يُغرم على الشغف البرتقال في هذا السياق ليس فاكهة بل رمزٌ للتقسيم الطبقي
للإغواء المحرّم – للإقتصاد المعاقب والمُشبع بالممنوعات
وتتبلورُ قفلة النصّ حول قول الشيوخ:
/ من يسوقُ الحصانَ لا يخجلُ عمّا يخرجُ منه/
وهي جملةٌ تنهي النصّ بإيقاع ساخر لاذع حيث من يسوق الحصان يقارن بمن يقود طبقة مقهورة لا يخجل من فضيحتها ـ من رائحتهاـ من ما يتسرّبُ منها
فالسائقُ في النهاية سجين العربة لا ربُّها وهو وإن بدا متحكّماً فهو الأكثر تماهياً مع عرق الحصان وعجزه وغباره فالحصان لم يَعد نبيلاً
بل وسيلة ومن يسوق الوسيلةَ هو من يتّحد بها في عُريها وسخامها
#ويُختم #النصُّ بصورةٍ مجازيّة فائقة الدقّة:
/ لكنّ السوقَ
يَستقبلُ رملَ أقدامِ الفُقراء/
فالسوق وهو المركز النَظَميّ لا يفتح أبوابه للسلع الفقيرة
بل يكتفي باستقبال أثرها: الرمل ما يعلق من أرجلهم – من تعبهم – من فقرهم- من صحاريهم الداخليّة-
الفقراء لا يدخلون السوق بوصفهم شركاء بل بصفتهم آثاراً جانبيّةً للحياة
خاتمة: #العربات #بوصفها #خطاباً ضدّ المركز
يتحوّل /السوق/ في آخر سطر إلى مساحة شبه مقدّسة لكنّه لا يقصي الفقراء بل يترك لهم / رمل أقدامهم / :
/لكنّ السوق
يَستقبلُ رملَ أقدام الفُقراء/
هذه الصورة الموجزة تختم النص ببلاغة فادحة إذ لا مكان للفقراء في السوق إلا ما يتساقط منهم وهو الرمل
هو ما يعلق من مفازاتهم لا بضائعهم بل فقرهم ذاته
سفن غارقة
#ينتهي #هذا النصّ الشعريّ
/العربات/ حيث لا تنتهي المدينة بل تستمرّ رحلتها عبر عربات الصمت التي تحمل عبء الذاكرة والهوية والسلطة
رحلةٌ تلامس القاع والماء والغبار وتفضحُ الصراعات الإجتماعية المهيمنة التي تُغرقُ الإنسان في مستنقع الاغتراب والتاريخ المسكوت عنه
في هذا المسير الذي لا يكلّ تتشابك الأبعاد الزمانية والمكانية لتنسج من العربات رمزاً مركزيّاً يعبّر عن الصراع المستمر بين الإنسان ومآلات القوة التي تحاول ترويضه وإسكات صهيله
لذلك نبدأ هنا رحلة التأمل في / العربات/ كإستعارة حية لعوالم مغمورة من العجز والمقاومة من الصمت والاندفاع ومن الحلم الذي يرفض الانكسار
نص بديع دام اليرع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى