النقد ……. وجهة نظر الكاتب علي درويش // المغرب

••• النقد مرة أخرى ومن جديد
…..(مجرد وجهة نظر )
••• بقلم علي درويش
▪︎▪︎▪︎
لم يتوقف الحديث عن النقد يوما إلا ليستأنف من جديد، آخر ما قرأت من تدوينات جلها إما تُدين غياب النقد أو تنتقد افتقار الناقد للموضوعية (آخر ما قرأت من ذلك للمبدعين الصديقين وردة بوعفار وحسن ميري)،
لذلك أقترح عليكم درءا لسوء الفهم، أن نتحدث بلغة يفهمها الجميع حتى الذين حال تخصصهم دون أن يعلموا بأن النقد الأدبي عالم رحب زاخر بالمدارس والتيارات والنظريات والمفاهيم والإجراءات.
تعالوا إذن، نتخلص من لغة البهرجة الإصطلاحية والتعقيد المفاهيمي، ومن ترجمةٍ سقيمة أغلبها مرتجل ولم تستقم يوما ولم تكن محل إجماع أبدا.
تعالوا نستعمل إذن لغةً تخاطب جمهورا جلّه لا علاقة له بمعرفة نقدية ولا بماهية الممارسة النقدية ..
وتجنبا لتعويم النقاش، وكي نسهل على أنفسنا مأمورية البحث عن إجابات محددة، أقترح أن يتم حصر الأسئلة الكبرى قبل أن تُشتق من كل سؤال أسئلة فرعية :
-فهل هناك أزمة نقد حقا؟
-أم هناك أزمة نقاد؟
-أم هناك أزمة “صورة” مغلوطة عن ماهية النقد ووظائفه؟
يعلم أصحاب التخصص بأن مجال النقد عانى أكثر من غيره من صعوبات في التحديد المفاهيمي كما عانى ولا يزال من الصرامة المنهجية لبعض المقاربات التطبيقية، وعانى من ترجمة لم تخلُ من تسطيح وارتجال وعانى ولا يزال من مشقةِ السعي إلى الإتقان الإجرائي أي من صعوبة تنزيل المعرفة النقدية (العالِمة) إلى إجراء نقدي على الورق، فضلا عن مشاكل أخرى منها اضطراب مرتبط بتشتت المناهج واختلاف الرؤى وضبابية في المفاهيم وزخم في معايير الجودة، أضف إلى ذلك ظاهرة التسلط على النقد من لدن قراء مزيفين يُنصبون أنفسهم نقادا ، تماما مثل المرشدين السياحيين المتطفلين.
لذلك كثيرا ما يُعاب على النقاد انزواؤهم في أبراجهم العاجية، فإن أطل أحدهم بدا مثلَ عروس تحجبُ المساحيقُ ملامحَ جمالها، بفعل التأنق في استعمال اللغة الواصفة و الإفراط في التعقيدات الاصطلاحية التي تحول دون التلقي السليم للنص النقدي.
لنميز إذن (رجاء) بين النقد والرأي الانطباعي العابر الذي يكتبه قارئ ما أسفل منشور ما (ومن حق كل قارئ أن يقول ما بدا له وكيف بدا له)، ولنميز (رجاء) بين الإجراء النقدي المتكامل منهجيا ومفاهيميا، وبين ما يقوم به البعض مما يسمى تقديما أو قراءة تتضمن غالبا شرحا مطولا للنصوص أو استعراضا لمضامين ديوان شعري أو تلخيصا لنص روائي أو تمطيطا في الحديث عن موضوع قصة ما. وليكن في علمنا جميعنا (رجاء) بأن النقد هو إجراء عملي على إبداعٍ أنجزه المبدع وليس على المبدع نفسه، أي هو اشتغال على النص وليس على صاحب النص.
ولنعلم أن جودة الممارسة النقدية الجادة تشترط إضافة إلى المعرفة ذكاءً ويقظةً وتركيزا(مُرهِقًا أحيانا) و تستلزم خلقَ تجانسٍ بين الصرامة المنهجية (ببعدها العلمي التطبيقي) وبين اللغة الواصفة.
ولنتفق أيضا على أن ثقافة الناقد (كغيرها من الثقافات) تجمع بين العام والخاص ، بين التخصص في منهجٍ أو في جنسٍ أدبي، وبين الإحاطة الشاملة بالمعرفة النقدية وبمناهج النقد قديمها وحديثها.
وليس عيبا -يا أصدقائي- أن ينتقي الناقد ما يراه ألْيَقَ بالمقروء، سواء أكان نقدا معياريا أو وصفيا، سواء أكان من البنيوية أو ما قبلها أو ما بعد البنيوية أو من التفكيكية أو كان مما قبلها أو مما بعدها…الخ.
أزمة النقد إذن -يا أصدقائي- هي (في تقديري المتواضع) أولا أزمةُ معرفة بالنقد وهي ثانيا أزمة لغة نقدية وهي ثالثا أزمة ناقد ظل رهينةً للخطاب الأكاديمي المغرِق في التجريد والغموض، أي هي أزمة خطاب نقدي منغلق على نفسه، (قد تسخرون إذا علمتم أن أغلب النقاد لم يمارسوا النقد، ركزوا على كلمة يمارس)، فإن قرأ بغضهم نصا، ظل يحوم حواليه أو حوالي صاحبه وموضوعه، وقلما يفض عذريته ويلج إلى أعماقه ويدقق في تفاصيله أو يستكشف ثناياه ويلتقط إشاراته.
ثم، لعلكم لاحظتم أنتم أيضا، أن وضعية النقد أشبه بوضعية الإبداع في الأدب والفن عامة. فكما أنه في الغناء لم يخلِف أحدٌ حاليا أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وفيروز ، ففي النقد أيضا ليس هناك حاليا أسماء تأتي بمثل ما أتى به العقاد وطه حسين ومندور وتودوروف وبارث وسارتر ودريدا وغيرهم في زمانهم.
أي أن النقد هو الآخر أصبح ضحية سياق تاريخي يتسم بسهولة الاختلاس عبر النقل والإلصاق وبالسرعة والعجلة وبالكثرة المزيفة وبالكلمة المرتجلة وبالنفعية وبالأحكام الذاتية ، مما أفرغ النقد من محتواه وحوله الى مجرد ساعي بريد ممسوخ يحمل رسائل حبلى بالإطراء وبالمجاملات الفارغة.
باختصار، النقد لم يمت ولم ينقرض، كما يتوهم البعض، بل تحول كما تحولت القيم والمعرفة الانسانية عامة إلى ثرثرة بلا روح ولا طعم.
مع تحياتي
ع.د