عراق اللغات: “حين تتكلم الأرض بلهجات متعددة” …… بقلم // سحر حسب الله// العراق

يولد الإنسان بلغتين: لغةٌ يتعلّمها من الكتب، وأخرى تنمو في دمه كالعروق.
اللغة الأولى تُدرَّس، وتُصحَّح، وتُخضَع لقواعد صارمة، أما الثانية، فهي لهجته — فطرتهُ اللغوية الأولى، موسيقاه التي لا تُدوَّن، لكنها تُعزف على لسانه كلّما اشتاق، كلّما غَضِب، كلّما بكى ضاحكًا.
واللهجات ليست أصواتًا متكسّرة عن اللغة، بل هي مرايا الروح؛ تحمل نبرة الأرض، وملح الهواء، وهمس الأمهات في الليالي الطويلة.
وفي العراق، حيث تتداخل الأزمنة كما تتقاطع الأنهار، تتعدد اللهجات حتى يكاد المرء يشعر أنه لا يعيش في وطنٍ واحد، بل في عدة أكوان لغوية متشابكة، لكل منها موسيقاها، وخيالها، ودفؤها الخاص.
من هنا، يبدأ السؤال:
هل العراق وطنٌ يتكلم، أم أنه صوتٌ تشكّل من وطن؟
وهل يمكن اختصار هوية شعب في لهجة، أم أن كل لهجة هي هوية كاملة بحد ذاتها؟
لننصت إذًا… ليس للغة، بل لما وراءها.
إلى الحنين حين ينطق بلهجة الجنوب،
وإلى الكبرياء حين يتكلم لسان الموصل،
وإلى الحكمة وهي تتمتم على لسان أُمّ بغدادية مسنّة،
ولنكتشف، في هذا المقال، كيف أن اللهجات ليست فواصل لغوية… بل جسورٌ سرّية تربط الأرواح بالوطن.
في قلب الشرق الأوسط، حيث تتشابك الحضارات كما تتشابك ضفائر النخيل، ينبت العراق ليس فقط كأرض غنية بالنفط والأنهار، بل كمملكة لغوية مذهلة، تتكلم لهجاتٍ لو أُصغيت إليها جيدًا، لسمعت صوت التاريخ وهو يتنفس.
العراق ليس بلدًا بلهجة واحدة، بل هو جوقة لغوية متعددة الطبقات، تنبع من أعماق قرى الجنوب، وتتراقص فوق ألسنة المدن الشمالية، وتتماوج في الأسواق، والأزقة، والمسارح، وقلوب الشعراء.
اللهجات في العراق: نهر من الأصوات
العراق موطن لهجات عديدة، تختلف من محافظة إلى أخرى، ومن مدينة إلى قرية، وأحيانًا من حي إلى آخر داخل المدينة ذاتها. لا تقتصر اللهجات على التمايز في اللفظ فقط، بل تمتد إلى اختلافات في التركيب، والمجاز، والنبرة، وحتى الإيماءات المرافقة للكلام. فلهجة أهل البصرة ليست كلهجة أهل الموصل، ولهجة أهل الناصرية تختلف عن لهجة بغداد، وبغداد نفسها تحمل في داخلها تنوعًا كبيرًا بين الكرخ والرصافة، بين الشورجة والكاظمية، بين صوت الدراويش في الحضرة وصوت الباعة في الأسواق.
وتأتي اللهجة الكردية، والتركمانية، ولهجات المكوّن الإيزيدي، والصابئي، والكلداني الآرامي، لتؤكد أن العراق ليس له صوت واحد، بل هو أوركسترا من الأصوات، كل صوت فيها يحكي قصة أمة صغيرة داخل وطن كبير.
الجمال في التعدد
ربما لا يفهم هذا الجمال سوى من عاش في أرضٍ متعددة اللهجات. العراقي يسمع لهجة مختلفة، فلا يغضب، بل يبتسم، كأنّه يلتقي بقريب له من بعيد. في لهجات العراق دفءٌ عجيب، فيها شيء من الأم، ومن النداء العتيق في الذاكرة.
يقول أحد الشعراء:
“اللهجة ليست فقط لغة، بل هي تذكارٌ من الجدة، ولمسة من تراب الطفولة، وشكلٌ من أشكال الانتماء غير المُعلن.”
ففي لهجة النجفي تجد الوقار، وفي لهجة الكردي تجد الإصرار، ولهجة الموصلي فيها شيء من الدهاء اللطيف، ولهجة أهل البصرة كأنها شجنٌ مغنّى على أوتار العود.
الشعراء واللهجات: عشقٌ غير قابل للترجمة
العراقيون يعشقون الشعر، ويكتبونه، ويغنونه. واللهجة المحكية ليست عائقًا أمام الشعراء، بل هي أداة تعبير حية، أكثر قدرة على لمس القلوب من اللغة الفصحى أحيانًا. شعراء مثل مظفر النواب، عريان السيد خلف، وزهور حسين، حوّلوا اللهجة إلى مسرح عاطفي تتجسد فيه الأحلام والانكسارات.
في أحد دواوينه، كتب مظفر النواب:
“أحن إلهم حيل، لو يدرون، جان اجوني…”
جملة بسيطة، لكن وقعها أقوى من أي قصيدة رسمية؛ لأنها صادقة، نابعة من وجدان اللهجة، من حرارة الحياة اليومية، من نبضات القلب حين يتكلم بلا حواجز.
الأدباء والكتّاب: بين الفصحى والمحكية
بينما يحافظ الأدباء العراقيون على استخدام اللغة الفصحى في النصوص الروائية، إلا أن كثيرًا منهم لا يتردد في إدخال اللهجة المحلية في الحوار أو الوصف، لتمنح النص واقعيته ونكهته. فالكاتب حسن العلوي كان يقول إن “اللغة الفصحى عقل، واللهجة روح”، ولعلّ القارئ لا يتفاعل مع شخصية روائية بقدر ما يتفاعل مع لهجتها، لأنها تُشبهه، وتُشبه عمّه، أو صديقه، أو جار الحي.
في روايات مثل “الوشم” لعبد الرحمن منيف، أو “فرانكنشتاين في بغداد” لأحمد سعداوي، نجد لمسات من اللهجات التي تجعل النص أكثر حميمية.
ماذا قال الغرب عن اللهجات العراقية؟
لم تكن لهجات العراق غائبة عن عين الغرب، بل كانت محل دراسات لغوية وأنثروبولوجية متعددة. باحثون من جامعات كيمبردج وبرينستون درسوا اللهجات العراقية بوصفها كنوزًا حية للغات القديمة، منها ما يحمل آثارًا من الآرامية، ومنها ما يُظهر بقايا الفارسية والآكادية.
وفي إحدى محاضراته، قال المستشرق الفرنسي جاك بيرك:
“حين تجلس في مقهى عراقي، وتستمع إلى الحديث اليومي، تشعر وكأنك تستمع إلى بابل القديمة وهي تهمس من جديد.”
اللهجات والهوية
اللهجة ليست فقط لغة، إنها هوية. هي ما نقوله عندما نرتبك، عندما نفرح، عندما نبكي، عندما نعود من الغربة. فاللهجة تنطق بنا حين تعجز اللغة الرسمية عن التعبير.
وفي العراق، تتحول اللهجة إلى مَعْلَم حضاري، لا يُمكن تجاوزه. نُعرَف بها حين نسافر، ونُطمئن بها حين نعود، وننقل بها الحكايات إلى أطفالنا دون أن ندري أننا نمرر لهم ذاكرة كاملة.
تداول اللهجات في وسائل الإعلام
من اللافت أن اللهجات العراقية أصبحت أكثر انتشارًا في الإعلام، خاصة بعد أن كسر الجيل الجديد من الفنانين والكتّاب والمخرجين حاجز الخوف من اعتبار اللهجة “لغة دونية”. نشاهد اليوم أفلامًا ومسلسلات عراقية باللهجات المحلية، تتحدث عن واقع الناس، عن همومهم، وتحمل رسائل اجتماعية وسياسية وإنسانية بلغة القلب.
حتى الأغاني الحديثة، رغم استخدامها الإيقاعات العصرية، بقيت محافظة على لهجة الشارع، كأنما تقول: “لن تُجمّلنا الفصحى إن تخلينا عن لحننا الأصيل.”
الختام: العراق يتكلم… بألف لحن
في العراق، اللهجات ليست وسيلة تواصل فقط، بل أرواحٌ صغيرة تسبح في فضاء الأمة. كل لهجة تحمل تاريخ شعب، وسيرة أرض، وأغنية لم تُكتب بعد.
إن كنتَ زائرًا للعراق، فلا تستغرب إن احتجت إلى مترجم في كل محافظة، ولا تتعجب إن أحببت صوتًا غريبًا لا تفهمه… فذلك الصوت قد يكون صوت جدك السومري، أو لحن أمّك الكلدانية، أو أنين نايٍ كرديٍّ على جبال دهوك.
العراق يتكلم، فأنصت جيدًا…
فصوت الحياة هنا لا يأتي من لغة واحدة، بل من مئة لهجةٍ ولهجة، كلها عراقية، وكلها جميلة.
سحر حسب الله – العراق