أشرف الصباغ يكتب :ماذا يمكن أن تقدم روسيا

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أدلى بتصريحات كثيرة خلال الشهرين الأخيرين حول استعداد روسيا لإيجاد سبل من أجل تسوية الملف النووي الإيراني. والآن ظهرت مشكلة التصعيد الإيراني الإسرائيلي لكي تعمل على تعميق الأزمة. كما أن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أعرب في اتصاله بنظيره الإيراني عن نفس الاستعداد. وبالأمس صرح كل من نائب وزير الخارجية، وممثل روسيا في الأمم المتحدة، بأن التصعيد الجاري حاليا بين إيران وإسرائيل يهدد المنطقة بعواقب خطيرة، في إشارة إلى وجود العنصر النووي في الموضوع. كل هذه التصريحات مقرونة بإدانة العمليات الإسرائيلية بطبيعة الحال. وعلى الرغم من أن الانطباع الأول والسريع يشير إلى أن روسيا متمسكة بحق إيران في تطوير قدراتها النووية السلمية، وأنها تقف إلى جانب إيران، إلا أن روسيا في حقيقة الأمر مستفيدة جدا من كل ما يجري، ومن أغلاق مضيق هرمز، وتعطيل الملاحة في البحر الأحمر، على الأقل فيما يتعلق بارتفاع أسعار النفط الذي يعتبر الركيزة الأولى للميزانية الروسية. وبالتالي، فموسكو أيضا لديها مصالحها، سواء تمت تهدئة الوضع، أو زادت وتيرة التصعيد.
الرئيس الروسي اتصل بكل من الرئيس الإيراني وقدم له العزاء، واتصل أيضا برئيس الوزراء الإسرائيلي وأعرب له عن إدانته الإجراءات العسكرية الإسرائيلية. وموقف موسكو واضح تماما، نظرا لأنها ترتبط باتفاقية شراكة استراتيجية شاملة مع إيران، لكنها لا تتضمن أي نوع من الدفاع المشترك، وتقتصر على التعاون العسكري التقني، والتعاون الأمني إضافة إلى المجالات الأخرى. والغضب الأساسي لروسيا من إسرائيل هو موقف الأخيرة من الأزمة الأوكرانية. وربما هذا ما يدفع روسيا للإدلاء بتصريحات حادة إزاء إسرائيل، ليس فقط في الملفين الأوكراني والإيراني، بل في قضايا أخرى لا علاقة لها بالمنطقة.
وهنا نتوقف قليلا لنسأل، هل عَرْض بوتين، يعني وساطة بين إيران وإسرائيل، أم تفاهم روسي أمريكي يمكنه أن يعيد الملف النووي الإيراني إلى دائرة المفاوضات السياسية؟ أعتقد أن وساطة روسيا بين طهران وتل أبيب صعبة نسبيا بنتيجة موقف روسيا ومناوراتها، وحرصها على اقتناص الفرص السريعة بصرف النظر عما يجري، أو مساهماتها في تحويل بعض المناطق إلى ساحات صراع بينها وبين الدول الغربية، حتى إذا احترقت هذه المناطق. أما بخصوص التفاهم الروسي الأمريكي، فواشنطن تقوم بنفسها بهذا الدور وفقا لمصالحها ومصالح حلفائها. وبالتالي، لا أدري، ماذا يمكن أن تقدم روسيا أكثر مما قدمته خلال السنوات العشرين الأخيرة في الملف النووي الإيراني؟ وربما يكون بوتين يقصد من اقتراحه هذا، بالوساطة، إعطاء انطباع بأن هناك تفاهما وتعاونا بينه وبين ترامب على الملف النووي الإيراني وبعض الملفات الأخرى من جهة، ومن جهة ثانية، يوسع الشقاق أو يعمق التناقضات بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. أي يمنح ترامب مساحة من المناورة ويلوِّح له بمنافع ومصالح. وفي الوقت نفسه، يضغط على الأوروبيين الذين يقفون في طريقه، سواء في أوكرانيا أو في الملف النووي الإيراني. هذا إضافة إلى كسب بعض الأوراق في الشرق الأوسط الذي أصبح خاليًا تقريبا من النفوذ الروسي، بعد فرار الرئيس السوري السابق بشار الأسد، واختلال موازين القوى لغير صالحها في المنطقة.
وفي الواقع، كان هناك تعويل على جولة المفاوضات الجديدة بين إيران والولايات المتحدة اليوم الأحد في مسقط. ولكن يبدو أن الأمور أصعب مما نتصور، وهناك تصريحات سلبية بخصوص إجراء هذا اللقاء، على الرغم من أنه ليس بين إيران وإسرائيل، وإنما بين إيران والولايات المتحدة. وعدم إجرائه يدخل تحت بند النزق السياسي والغضب الذي يتعارض مع جوهر وغايات العمل الدبلوماسي والسياسي الذي يحتاج إلى أعصاب باردة واتزان ومراعاة للمصالح العليا. وربما كان الولى بروسيا أن تنصح إيران بالتوجه إلى مسقط لعقد اللقاء مع الجانب الأمريكي، وفقا للمثل الشعبي الروسي المهم: لنعزل بين اللحم والذباب.. أي فصل الأمور عن بعضها ومحاولة إيجاد ثغرات أو عوامل مشتركة للسير في مسار محدد دون أن يؤثر على المسارات الأخرى المعقدة.
أما بشأن التصعيد الحالي بين إيران وإسرائيل، فإنه يسير بشكل معقد للغاية، تحيطه الكثير من الأكاذيب والضلالات، ويستخدم فيه الطرفان الإيراني والإسرائيلي كل أبجديات الحروب الدعائية التي تفوق آلة جوبلز في الحرب العالمية الثانية. وتدخل مصالح الشركات والدول النفطية، ومصالح مؤسسات صناعة الأدوية وأدوات الوقائية من الإشعاعات، واللبوبيات الإعلامية والسياسية، وتجارة السلاح… الموضوع معقد للغاية موازين القوى غير متكافئة على الإطلاق، وما يظهر من معلومات وحقائق لا يمثل 10% مما يحدث على أرض الواقع، بينما تطفو على السطح الصور الذهنية والسرديات المزيفة، والتصريحات المجتزأة والملفقة، والصور ومقاطع الفيديو المزورة، فضلا عن التحليلات التي يغلب عليها إما الطابع الدعائي، أو الرغبات الشخصية والعقائدية، أو التوجيهات السياسية لتخفيف الضغط على ملفات داخلية لبعض الدول…..