رائحة السمك المشوي …..قصه قصيره بقلم محمد الصباغ

لم تكن الشيخوخة قد أتت كلها ؛ فقد تزوج صغيراً وأنجب أولاده صغيراً ؛ فكبروا في ظله وظلوا من حوله ؛ حتى اعتراه عارض الغيبوبة الذي أصابه فجأة ، فأصبح معلقاً فوق الأرض دون أن يغادرها وأصبح عالقاً في الحياة ، دون أن يحياها . وبعد أن طالت غيبوبته دون سبب مرضي واضح قد تم اكتشافه ؛ فقد عاش أياماً طوال في الغيبوبة ، ولكن حدث فجأة أيضاً أن أفاق ووعى ما حوله ، حتى أن الأطباء قد سمحوا له بأن يخرج من المستشفى ؛ ليشفى بعد ذلك في بيته .
وعندما استقر في بيته واستراح في سريره وأولاده من حوله ، عندها قال لأولاده الكبار الذين كانوا يتجمعون حول سرير غيبوبته :
– ” إني أشم رائحة السمك المشوي بالردة كما كانت تعده أمي ، وكنت أتشمم رائحته قبل أن أدخل البيت ، وأنا راجع من مدرستي جوعان ، فالتهم كل ما تضعه أمي أمامي من سمك ، ولو كان ملئ البحر !! ” .
ضحكوا جميعاً بلا سبب واضح ، وكل كان سببه داخله ، ولكنهم عموماً استبشروا فضحكوا ، وقالوا : “سلامتك بالدنيا ، لو اشتهيت أي شيء سنأتي به حالاً ” .
إنسل الابن الأصغر لكي يحضر لأبيه سمكاً مشوياً حسب الإشتهاء الذي أتاه وهو في غيبوبته فيما يبدو ؛ حين كان يستعد لعوده المؤقت للحياة ؛ وقد سمع أبيه قبل أن يغادر ليحضر السمك المشوي الموصي عليه ؛ يقول كلامه الأول بعد الرجوع إلى البيت والخروج من الغيبوبة :
– ” لعلي مُت فعلا ؛ ولقد رأيتكم من موتي ؛ بل إني رأيتكم في عمركم القادم ورأيت حياة وشكل كل منكم ؛ ولكن في صورة باهتة وكأنها خيالات غير واضحة تماماً ، لقد طلبت من الموت أن يمهلني ولا يعدمني ؛ فلقد أردت أن أستف لكم بعض الذي فاتني أن أفعله في حياتي ، وأرى أن وصيتي لكم هى ملزمة لمن أراد أن يصدق حياته من بعد ؛ حيث لا أستطيع بعد الآن لا ضراً ولا نفعاً لأحد : الموت هو الحقيقة الغائبة ؛ والحياة هى الحقيقة الزائفة ، ولكن لا أحد يتحقق من الحقيقة إلا بموته ” .
عند هذا الحد من كلام أبيه غادر الأبن الأصغر الأثير ؛ ليحضر السمك المشوي المرغوب ؛ وفاته حضور حوارات أبيه مع إخوته ؛ بعد أن عاد أبيه مؤقتاً إلى الحياة ، وقد كان ظنهم أنه عاد نهائياً .
واصل الأب كلامه دون كلل وكأنه لم يكن مريضاً ؛ خرج لتوه من غيبوبة طويلة ؛ عُد معها وكأنه من الأموات :
– ” لقد طلبت مهلة من الموت لكي أستطيع أن أقدم لكم في “منحة الموت ” مالم أستطع أن أقدمه لكم في حياتي ؛ فلا فرصة أخرى ليّ معكم ؛ من أراد شيئاً الآن ؛ فليس هناك بعد ، وإن استطعت سوف أقول كيف أقدمه ؟! ؛ ولن يكون هناك متسعاً ولكن سوف اكشف لكم أولا سر الحياة وسر الموت ؛ وبذلك أكون قدمت لكم أعظم ما يمكن أن يقدمه أب لأبنائه : سر الحياة وسر الموت وسر الحياة والموت معاً ؛ ومفتاح الأبواب التي تجعل التراوح ما بين الحياة والموت ممكناً هو : “الحب بصدق” ؛ الحب هو عملة التداول الحقيقية في الحياة وفي الوجود كله ، الحب هو أن تضيف إلى الوجود ، وتضيف إلى الحياة وتصبح واجداً وصانعاً الحياة ؛ ومضيفاً الحياة ، وخاصة إلى حياة من تحبهم وخاصة إلى حياة من أحبوا حياتك ؛ وحتى لو تحولوا عن حبك ” .
وجد الأبن الأكبر الفرصة لأن يقاطع استرسال أباه ؛ عندما وجده سيواصل الحديث عن الحب والصدق في الحب ؛ وقال له معاتباً :
— ” لم تكن عادلا يا أبي فيما أعطيت لكل منا ؛ وإذا كان بمقدورك أن تصحح ذلك الآن : فقل ما يحقق التصحيح ، ونحن سنتمم الاجراءات بالتراضي بيننا ، فنحن كلنا كبار ” .
– لقد أعطيت كل منكم قدر حاجته ؛ وليس هذا إخلالا بالعدل ؛ بل العدل أن يأخذ كل قدر حاجته . لا تحدثني يا إبني في الضئيل ؛ في هذه الفسحة القليلة المتاحة لنا ؛ فأنا أريد أن أحدثكم عن العظيم في الموت ؛ والذي يجعل لكم القليل من الحياة والقليل في الحياة عظيماً .
— الحقيقة أنك دمرت حياتي با أبي ؛ عندما قلت ليّ : ” لماذا لا تتزوج ؟! ؛ عندما كنت في سنك ؛ فقد كنت قد خلفتكم جميعاً ورأيتكم أمام عيني وفي يدي ؛ واصل الحياة بجد بأن تنجب . لقد سمعت أمرك ونصيحتك ولكن تبدلت حياتي للأسوأ كما ترى ” .
– لم أسلب منك شيئاً ، أنت الذي عليك أن تعطي نفسك ؛ وواصل الحياة بأن تثور على تقصيرك ، وعلى ما صنعت في الحياة ؛ يمكنك من الآن ، إصلاح كل ما ترغب في تغييره لو أردت .
عندما سمع أبنه الأكبر الكلام الذي قاله له أبيه بهذا الحزم ، واصراره على عدم التراجع عما فعل معه ، ويراه هو غبنا ، فقد فسر لأخواته ما قاله أبيه بعد غيبوبته الطويلة الغامضة ، وكأنه أصبح يتمنى مغادرة أبيه للحياة نهائيا ؛ فقال لإخوته :
– ” إنه مغادرنا قريباً وربما في يومنا هذا ” .
ردوا على أخيهم بأن أبوهم قد عاد فعلاً للحياة وهو يتحدث بصوت رجل حي ، لا صوت رجل مغادر الحياة ، قالوا ذلك وإن تحيروا ؛ كيف سيلبوا لأبيهم طلبه ويطعموه السمك المشوي ، وهو لم يأكل طعاماً منذ دخل في غيبوبته ؛ وقد أبقاه على قيد الحياة التغذية بالمحاليل الطبية ؛ واقتنع الأبناء ؛ على أنه إذا كان لن يستطيع الأكل ؛ فهو على الأقل سوف يشم ما قد اشتهى ، وأنه ولابد من تلبية إشتهائه فربما يموت فعلا ؛ وانتظروا أن يَحضر أخوهم الأصغر الذي ذهب لإحضار السمك المشوي المشتهى من أبيهم فور دخوله البيت من بعد الغيبوبة مباشرة .
كان الأب قبل إفاقته من الغيبوبة التي مات بعدها ؛ بعدما ذهبوا به إلى البيت . كان قد أصاب أولاده بالحيرة من استمراره على قيد الحياة ميتاً ؛ أو موته حياً ؛ وكانوا يتناوبون عليه في مجالسته وقص الحكايات عليه في مرقده الصامت ؛ لتسليته والتسرية عنه في الغيبوبة ، وكان كلما استملح قص شيء ما عليه ؛ كانت ترتسم إبتسامة خفيفة على شفتيه وكأنها موجودة ؛ قد رسمها ظل الغرفة على الوجه الساكن .
كانت إبتسامة آتية من عالم الصمت والسكون وربما من عالم الموت القليل الذي يحياه ولذلك كانت مقدرة جداً عند أولاده ؛ وصاروا يتباهون فيما بينهم ؛ أيهم قد عجل الإبتسامة وجعلها ترتسم حقاً لا وهما على وجه أبيهم .
كان كل منهم يلقي بحكاياته مع أبيه الغارق في السكون وكأنه يرميها في الجب وحفرة النسيان ؛ فقد أصبح الشك يراودهم في قدرتهم على استرداد أبيهم من اللا موت واللا حياة .
ثم بدأ الأبناء من أجل التجويد في تسليته في السكون الحياتي الذي يقف فيه ، والتسرية عنه : كان كل يقص على الأب ، بعض ما فعله دون أن يخبره به ؛ وكل ما كان فعله بالتحايل بعيداً عنه ؛ وكان ذلك الذكر للأحداث ؛ من أجل أن يستكملوا حياة أبيهم وأن يعيش حياته كاملة غير منقوصة ؛ ما تم إخفاؤه عنه سابقاً .
لم تكن التفاصيل التي حكوها لأبيهم البعيد عن الواقع بالغيبوبة ؛ مهمة أو خطيرة أو فاضحة ؛ ولكنها كانت صادقة وكأنها تشركه من جديد في صناعة القرار الذي تعمد الأبن وقتها أن يخفي عن أبيه السبب الحقيقي للقرار والذي ؛ استكمل الحكي بالحكي ؛ الجزء الناقص له في الحياة .
قال الأبن الأكبر لأبيه وهو يمازحه في الغيبوبة وكانا لا يتبادلان المزاح في وعي الأب أبداً :
– ” لقد ضحكنا جميعاً يا أبي ؛ عندما رأيناك مبالغاً إلى حد غير معقول عند وفاة شقيقك الأكبر ؛ لقد كنا صغاراً ولم نكن قد استوعبنا بعد معنى فقد الأخ لأخيه !! ” .
” ومرة أخرى ضحكنا عندما واستك جدتي ؛ وقالت لك أنها رأت ” سيدنا الخضر ” يقرع باب بيتنا ليعزيك في وفاة شقيقك ؛ ولما أدركنا أنه كان “حلماً ” في منامها ؛ فقد ضحكنا حتى الدموع يا أبي ؛ وكنا نتندر بهذه الحكاية فيما بيننا ؛ وقد سمعتنا جدتي نسخر منها ومنك ؛ بهذا الحلم ؛ ولكنها كعادتها معك لم تبلغك ما يؤلمك . يا أبي : العفو والسماح ؛ سوف لا نخبرك بالأشياء الفظيعة التي حدثت من خلفك ، فنحن لا نريد اغضابك أبداً ” .
كانوا يقصون اعترافاتهم على أبيهم من أجل أن يحصلوا منه على السماح والغفران ؛ ولقد أتت إشاراته المتتالية لكل منهم على حدة ؛ بما يفهم منه أن أبوه قد تجاوز عن فعله وأنه قد سامحه ؛ بل وأقره على الفعل ؛ وعلى الإعتراف ؛ وأنه قد رضى بذلك التكفير عن التجاهل وعن الخطأ معاً .
وقتها وعندما أفاق الأب تصايحوا ؛ وكأنه قد نجا من الموت وليس كأنه قد خرج من الغيبوبة مؤقتاً ، وكان هو يدرك الحقيقة ؛ وكانوا هم في أمل أن يكون قد عاد تماماً إلى الحياة .
فى المستشفى ، كان أول ما قاله لهم عندما أفاق ، رغم أنه أفاق ووعى وأصبح على قيد الحياة :
– “إني ميت حتى إني أرغب أن أضاجع أي إمرأة ؛ لمجرد التزود بالذكرى وطعم الجنس في عالم الموت ، فمازالت أحب الجنس ، رغم أني بعد قليل مفارق الحياة ، يالا بينا إلي البيت ، أريد مغادرة الحياة والذهاب للموت من بيتي ، وليس من مكان آخر . جد ؛ إني أشتهي أنثى ؛ وإني قادر عليها ؛ وأقول لكم : إن اشتهائي وقدرتي لم يحدثا ليّ بهذا الشكل وبهذا القدر ؛ فيما سبق ليّ من حياتي ؛ وهذا دليل موتي الأكيد الوشيك ” .
— لماذا تحول نجاتك إلى عبث يا أبي ؟! .
– “الحزن يداهمنا ليغمر القادم من حياتكم أنتم ؛ لقد انتهيت أنا ؛ الحزن الذي يكسو الماضي يداهمنا جميعاً الآن ؛ حتى أنا الميت الوشيك ؛ ولا وقت لإضاعته على أي نحو ولا حتى للدموع المخففة للحزن ؛ الحزن يداهمنا والمتبقي من الزمن قليل جداً ؛ والعمر أصلا قد نفد ؛ والحزن يداهمنا ولا وقت حتى للموت ؛ لا وقت حتى للموت على النحو المعتاد للناس : لدي ما أقوله لكم في عجالة المسرع الميت الذي غادر الدنيا وبقى جثمانه يتحدث فقط ، ولنذهب أولا إلي البيت .
بينما كان الأب في انتظار ابنه الذي خرج ليأتي بالسمك المشتهى منه ، فقد شرع يردد دعاء في صوت خافت ويصمت ثم يكرره ويصمت ، ثم علا صوته بالدعاء مرة واحدة ، وبأعلى من المعتاد :
– ” اللهم احفظ عليّ سري في الدنيا والآخرة ؛ ولا تطلع عليه أحداً من عبادك واحفظه عليّ في الآخرة ؛ ولا تخبر به أحداً من مخلوقاتك على رؤوس الأشهاد ” .
عندما أتم دعائه في المرة الأخيرة ، عالية الصوت ؛ كان قد أغمض عينيه عن رؤية أي شيء مما حوله وقد فصل حاسة السمع عن أذنه وعن قلبه وقد ترك أولاده لحالهم . وعندما عاد الأبن الأصغر الذي كان أثيراً لدى أبيه ؛ وقد حظى بالنصيب الأكبر من ثروة الأب ، لحسابات خاصة بالأب ؛ ترجع إلى إحساسه بأن ابنه الأصغر سيعيش الجزء الأكبر من حياته وهو يتيم وقد أراد الأب أن يكافيء الأصغر عن هذا اليتم الطويل . عندما عاد الأبن الأصغر برائحة السمك المشوي بعد أن عاد سريعاً بطلب أبيه ؛ وقبل أن يدخل عليهم وقد استشعروا قدومه من رائحة السمك المشوي التي سبقته ؛ وبعد أن تأكد الأب أن ابنه قد أتى ؛ برائحة السمك التي سبقته تبسم الأب بمجرد أن شم رائحة الطعام ثم مات قبل أن يرى ابنه حاضراً بلحظة .
وبعد موته صار من ” طقوس ” تحضير روحه أن يأتوا بسمك مشوي تكون رائحة الشواء منه فائحة واضحة وأن تشهد طقوس الإستحضار إمرأة جميلة عارية صامتة.