كتاب وشعراء

“الوشم” لعبد القادر الرباعي: رمزية الذاكرة وجماليات التلقي…..بقلم ربا رباعي

الوشم: سرد الذات وندبة الجماعة

يقدّم الدكتور عبد القادر الرباعي في “الوشم” عملًا سرديًا ونقديًا مركّبًا، يمزج بين الواقع والخيال، والذاتي والجماعي، والمادي والرمزي. من خلال بنية سردية تتسم بالتداخل الزمني، والانسياب بين مستويات اللغة والذاكرة، يتحول “الوشم” إلى أكثر من مجرد نص أدبي؛ إنه وثيقة فكرية وجمالية تقرأ تحولات الإنسان العربي في مرايا التاريخ والثقافة والسياسة.

رمزية الوشم وتأويله

1. الوشم كعلامة وجود

الوشم ليس عنصرًا زخرفيًا في النص، بل هو أثر وجودي، يحيل إلى الألم والتجربة، ويؤكد على أن الإنسان يترك أثره لا بما يقوله فحسب، بل بما ينقشه على جسده من معانٍ وعلامات. يصبح الجسد، في هذا السياق، صفحة تُكتب عليها الذات:

> “كان الوشم يلسع جلدي كلما مررتُ بذاكرة الغياب.”

2. الوشم كذاكرة جسدية

هنا، يتحوّل الجسد إلى أرشيف حيّ، تختزن فيه التجربة، وتتكثف فيه العلاقة بين الماضي والحاضر. الجسد كما تقرأه نظريات ما بعد البنيوية (لا سيما لدى ميشيل فوكو وجوليا كريستيفا)، ليس كيانًا بيولوجيًا فقط، بل هو نصّ يُقرأ ويُؤوَّل، وقد نجح الرباعي في توظيف هذه الرؤية عبر تحويل وشم الجلد إلى وشم ذاكرة.

3. الوشم كتمرد رمزي

يحمل الوشم دلالة التمرد والرفض، لا سيما في مجتمعات تقليدية ترى في الجسد موضوعًا للضبط الاجتماعي. الراوي لا يوشم جلده ليتجمّل، بل ليعلن، بصمت صاخب، انفلاته من الرقابة والانتماءات المفروضة:

> “لم أسأل عن معنى الوشمة، كنت أحتاج فقط إلى أن أصرخ على جلدي.”

4. الوشم كهوية بديلة

في مواجهة الهوية الرسمية، التي تصوغها السلطة والثقافة السائدة، يظهر الوشم كوسيلة لتشكيل هوية فردية حرة. هو اختيار شخصي في مجتمع قائم على الإكراه الجمعي. كل وشمة تصبح شهادة ذاتية على محاولة العيش خارج القوالب:

> “كل وشمة تحمل قصة، وكل قصة تحمل هوية.”

رمزية الذاكرة

الذاكرة في “الوشم” لا تقتصر على التذكّر، بل هي قوة تشكيلية، تعيد بناء العالم من خلال استحضار الماضي وإعادة تأويله. لا تسير الذاكرة بشكل خطي، بل تظهر على شكل ومضات سردية، تجيء وتذهب، وتخترق الحاضر مثل طيف دائم. هي تتداخل مع المكان، فتصبح الأمكنة مثل “القرية” و”البيت القديم” و”الزقاق” ليست مجرد مساحات، بل مخازن لذاكرة جمعية، وشخصيات بحد ذاتها تتفاعل مع السارد وتشكّله.

في هذا المعنى، تتحول الذاكرة إلى بنية سردية تتحكم في إيقاع النص، وتُملي على القارئ شكل التلقي ووتيرته.

جماليات التلقي وتأويل النص

ينفتح “الوشم” على جماليات متعددة للتلقي، إذ لا يُسلم القارئ بمعنى واحد، بل يدعوه إلى بناء المعنى من خلال التفاعل مع الرموز، وتفسير الطبقات الدلالية للنص. يُفعّل الرباعي الوعي القرائي لدى المتلقي، ويحوّله من مستهلك للنص إلى منتج للمعنى، انسجامًا مع ما طرحه هانس روبرت ياوس ووولفغانغ إيزر في نظريات جماليات التلقي.

فالقارئ، أمام نص متعدد الأصوات، مشبع بالرمزية والتأمل، لا يملك إلا أن يدخل في عملية تأويل دائمة، يسهم فيها السياق الثقافي، والتجربة الذاتية، وأفق التوقع. وهكذا، يتحوّل “الوشم” إلى مرآة تعكس تجربة القراءة نفسها، كما تعكس الذات الكاتبة.

التأويل البنيوي والرمزي

من منظور بنيوي، يشكل الوشم وحدة دلالية مركزية تتفرع منها كل ثيمات النص: الألم، المنفى، الوطن، الجسد، الهوية. هذه الوحدة لا تتكرر فحسب، بل تُعاد صياغتها في أشكال سردية متنوعة، مما يخلق نسيجًا رمزيًا متماسكًا.

أما من الناحية الرمزية، فإن الوشم يحيل إلى المعاني الأسطورية: هو تابو مقدّس ومدنّس في آنٍ معًا، لا يُفصح عن معناه مباشرة، لكنه يظلّ يحضر في خلفية كل سرد.

خاتمة تحليلية

إن “الوشم” ليس مجرد سيرة ذاتية، بل هو نصّ يحفر في الذاكرة الفردية والجماعية، ليُنتج خطابًا رمزيًا وجماليًا يعيد التفكير في مفاهيم مثل: الهوية، الجسد، السلطة، والكتابة. يتموضع النص بين حدود الأدب والفكر، بين الذات والتاريخ، بين التجربة والرمز.

وبهذا، تتجلّى عبقرية الرباعي في تحويل الألم إلى لغة، والندبة إلى بالطبع، لنكمل قراءة وتحليل كتاب “الوشم” للدكتور عبد القادر الرباعي من الداخل، مع التوسّع في بعض الأبعاد الجمالية والفكرية:

4. تعدد الأصوات والحوار الداخلي

في “الوشم”، لا يكتفي الرباعي بصوت الراوي المفرد، بل يخلق تداخلاً بين أصوات متعددة داخل النص، من خلال تقنية الحوار الداخلي وتعدد زوايا النظر. فالراوي أحيانًا يخاطب ذاته الماضية، وأحيانًا يتحدث بلسان الجماعة، مما يُغني التجربة السردية ويجعل القارئ شريكًا في عملية التأمل والبحث عن المعنى.

هذا التعدد في الأصوات يعكس التمزق الداخلي الذي يعيشه الفرد بين موروثه الثقافي وطموحاته الحديثة، ويُضفي على النص بعدًا فلسفيًا وجود

5. المكان بوصفه ذاكرة

المكان في “الوشم” ليس مجرد إطار جغرافي، بل هو ذاكرة حيّة، تحتفظ بندوب الماضي وصراعات الطفولة وصور النضال. يتحول المكان، سواء كان القرية، المدرسة، الحي الشعبي، أو حتى زقاقًا بسيطًا، إلى وعاء يحمل الشخوص والتجارب.

يُظهر الرباعي براعة في تجسيد الأمكنة حتى تبدو وكأنها شخصيات تشارك في بناء الحكاية، لها حضور وتأثير واضح في مسار البطل وتكوينه النفسي.

6. البعد النفسي في السرد

النص مليء باللحظات التأملية والحميمية التي يغوص فيها الكاتب في أعماق النفس، ويستعرض خلالها صراعاته وهواجسه وتساؤلاته الوجودية. هذه المقاطع تمنح “الوشم” طابعًا سيكولوجيًا عميقًا، يربط بين التجربة الفردية والتاريخ الجماعي.

على سبيل المثال، حين يتحدث الرباعي عن “الندبة التي لا يراها أحد”، فهو لا يقصد جرحًا جسديًا، بل ألمًا داخليًا متجذرًا في الذاكرة والانتماء.

7. البعد الثقافي والسياسي

يُحمّل الرباعي نصّه دلالات ثقافية وسياسيةرمزية الوشم وتأويله

الوشم، كما يطرحه الدكتور عبد القادر الرباعي، ليس مجرد عنصر زخرفي أو ممارسة شعبية، بل هو علامة سردية تمثّل التقاء الجسد بالتاريخ، والمادي بالرمزي، والذاتي بالجماعي. يمكن رمزية الوشم وتأويله

الوشم، كما يطرحه الدكتور عبد القادر الرباعي، ليس مجرد عنصر زخرفي أو ممارسة شعبية، بل هو علامة سردية تمثّل التقاء الجسد بالتاريخ، والمادي بالرمزي، والذاتي بالجماعي. يمكن تفكيك رمزية الوشم في هذا العمل ضمن عدة مستويات:

1. الوشم كعلامة وجود

في سياق الرواية، يتحوّل الوشم إلى شهادة وجود، تبرهن على أن الشخصية عاشت، تألمت، واختبرت العالم. هو أثر دائم على الجسد يعكس تجربة لا يمكن محوها. هذا التأويل يحيل إلى مفهوم فلسفي: أن الإنسان لا يُعرَف فقط بما يقوله، بل بما يتركه من علامات.

> “كان الوشم يلسع جلدي كلما مررتُ بذاكرة الغياب.”

2. الوشم كذاكرة جسدية

يتجسّد الوشم بوصفه ذاكرة محفورة، لا في العقل فقط، بل على الجسد. من خلال هذه الصورة، يربط الرباعي بين الجسد والتاريخ، بحيث يصبح الجسد أرشيفًا للتجربة. وهذا يتقاطع مع مفاهيم ما بعد البنيوية حول “الجسد النصّي”، الذي تُقرأ عليه العلامات كما تُقرأ على الورق.

3. الوشم كتمرد رمزي

الوشم أيضًا فعل تمرد على السائد والمألوف، خصوصًا في المجتمعات التقليدية. الراوي، من خلال استحضار مشاهد الوشم، يؤكد على رفض القمع الثقافي والسياسي. الوشم هنا يُقرأ كبيان مقاومة، تمامًا كما يُقرأ كألم شخصي:

> “لم أسأل عن معنى الوشمة، كنت أحتاج فقط إلى أن أصرخ على جلدي.”

4. الوشم كهوية بديلة

الوشم في هذا العمل يشير إلى الهوية البديلة، أو تلك التي تتشكّل خارج قوالب الانتماء الرسمي. فالوشم لا يُمنح من سلطة، بل يختاره الفرد – ما يجعله تمثيلاً لهوية حرة، غير مؤطرة. كل وشمة في النص تحكي قصة، لكنها أيضًا ترسم حدودًا لما يمكن أن يكون عليه الفرد خارج الضغوط الاجتماعية والسياسية.

التأويل البنيوي والرمزي

من خلال التأويل البنيوي، يمكن النظر إلى الوشم بوصفه وحدة دلالية مركزية يتفرّع منها خطاب النص كله. فهو ليس رمزًا منعزلاً، بل يتداخل مع ثيمات أخرى مثل: الألم، النفي، الوطن، المنفى، الجسد، الحب، والموت. هكذا يتكامل الوشم في بنية العمل ليؤسس لما يشبه نظامًا دلاليًا يقوم على تكرار واستعادة المعاني في أشكال سردية متنوعة.

في المقابل، من خلال التأويل الرمزي، الوشم يكتسب أبعادًا أسطورية، ويصبح كـ”التابو” الذي يحيل إلى القداسة واللعنة في آنٍ معًا. إنه ما يجب أن يُستر أحيانًا، لكن لا يمكن إنكاره.

خاتمة التأويل

إن رمزية الوشم في كتاب الدكتور عبد القادر الرباعي تنفتح على قراءات متعددة، منها النفسية والاجتماعية والسياسية والجمالية. ومجمل هذه القراءات يثري النص ويمنحه كثافة شعرية ومعرفية، تجعل من “الوشم” نصًا يتجاوز السيرة الذاتية، ليصبح وثيقة فنية ونقدية لقراءة الذات والمجتمع معًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى