لمياء موسي تكتب :إذا خسرنا بعضنا، خسرنا سوريا

ليست الأوطان مجرد خرائط تُطوى في الجيوب، ولا أعلامًا تُرفرف فوق المباني. الأوطان ذاكرةٌ تسكننا، وإن جار الزمان، قلبٌ يخفق رغم الشروخ، وأمٌّ لا تكفّ عن الدعاء لأبنائها وإن اقتتلوا. وسوريا، هذه التي تشبه القصيدة حين تُتلى، والدمعة حين تسقط على الخد، لم تعد تحتاج مزيدًا من الخطابات، بل صمتًا يُفضي إلى صحوة، وحكمةً تُعيد للصفوف المتفرقة اتّساقها.
لقد تعب الوطن من أبنائه، من صراخهم في اتجاهاتٍ متضادة، من الأسلاك الشائكة التي امتدت لا بين حدوده، بل في صدور أهله. واليوم، إن لم نُدرك أن وحدة الصف ليست خيارًا بل خلاصًا، فإننا نكتب فصلًا جديدًا في مأساةٍ طالت، لا بمداد الحبر، بل بدموع الأطفال، وصرخات الأمهات، وأنين المدن التي كانت يومًا تنام على ضوء الياسمين.
سوريا، مهد الحضارات، وأرض الأنبياء، وملتقى القوافل التي نسجت أولى خيوط التجارة والفكر، ليست مجرد دولة على خارطة العالم، بل صفحة أولى في كتاب التاريخ البشري. من أوغاريت التي عزفت أول أبجدية، إلى تدمر التي وقفت شامخة في وجه الإمبراطوريات، ومن دمشق، أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، التي عبرت فيها الجيوش كما تعبر الأحلام، إلى حلب التي صدحت بالموشحات، وبنت مجدها على حجارة العصور.
تعاقبت عليها حضارات الفينيقيين، والآراميين، والآشوريين، والفرس، والإغريق، والرومان، ثم جاءها الإسلام فزادها إشراقًا، وكانت في قلب الخلافة الأموية يومًا، ثم سارت مع التاريخ تتقلب بين المجد والانكسار، لكنها لم تفقد يومًا روحها، ولم تنسَ أنها وُلدت لتكون منارة لا تنطفئ.
واليوم، وسط الانقسام والشتات، ما أحوج سوريا إلى أن تتذكّر هذا التاريخ، لا لتُباهي به، بل لتستدعي قوته وتنهض به من جديد.
الفرقة بين أبناء الوطن الواحد ليست مجرد خلاف في الرأي أو اختلاف في التوجهات، بل هي شرخ في الروح الجماعية، ونزيف في جسد الوطن لا يلتئم بسهولة. حين يتنازع الإخوة، يُطفأ وهج الانتماء، ويُستبدل دفء البيت الواحد بزمهرير القطيعة وسوء الظن. تصبح الأرض التي جمعتهم شاهدًا على ضياعهم، وتتحول اللغة الواحدة إلى جدران من الصمت، أو سيوف من الخصومة.
في الفرقة، يعلو صوت الكراهية، وتضيع البوصلة، ويصير الوطن ساحة لتصفية الحسابات بدل أن يكون حضنًا للجميع. أما الأعداء، فيكتفون بالمراقبة، فالوطن الذي ينهش نفسه لا يحتاج إلى غزاة.
إن الفرقة، يا سادة، تُفقر الإنسان، لا ماديًا فقط، بل وجدانيًا وأخلاقيًا؛ تسرق منه السلام، وتزرع فيه الغربة، حتى لو كان في وسط أهله ومدينته.
لقد خلفت الفرقة بين أبناء الوطن جراحًا لا تندمل، وفتحت أبواب البلاد لرياح التدخل الخارجي التي عاثت فيها فسادًا ودمارًا. حين تهاوت الجدران التي كان يجب أن تحمي الوطن من الداخل، تسللت قوى الخارج، لا لتُصلح، بل لتزيد النار اشتعالًا. ذُبحت المدن بسكاكين متعددة الأيدي، وتحوّلت البيوت إلى أنقاض، والمدارس إلى ملاجئ، والمستشفيات إلى أطلال. ووسط هذا الركام، تمدد الفقر كغبار الحرب، يغزو الأرواح قبل الأجساد، ويُطفئ أحلام الأطفال قبل أن تنضج.
أعزائي القراء،
لم يكن الفقر قدرًا، بل نتيجة طبيعية للتمزق، حين نسي البعض أن الوطن لا يُبنى بالبنادق، بل بالأيدي المتشابكة. واليوم، يدفع السوريون الثمن مضاعفًا: خراب في الحجر، وفقر في البشر، وتعب في الروح.
آن لهذا الوطن الجريح أن يُضمد جراحه بسواعد أبنائه، لا بسكاكين خصومه، وأن يستعيد عافيته من نبع المحبة، لا من فُتات المساعدات المشروطة. ما تزال في ترابه رائحة الياسمين، وفي ذاكرته صوت الأم التي كانت تُنادي أبناءها إلى مائدة واحدة، لا إلى خنادق متقابلة. فلنُلقِ السلاح، لا لضعفٍ، بل لقوة الوعي، ولنرفع راية الوطن فوق كل راية، لا ليُمحى الاختلاف، بل ليُصان في حضن وحدة جامعة. فالوطن لا يُشفى إلا حين يتعانق المختلفون، ويعتذر الخائفون، ويعود الضالّون إلى البيت الكبير.
سوريا تنتظر أبناءها، كل أبنائها، ليعيدوا لها وجهها الجميل الذي لوّثه النزاع، وجوهرها النقي الذي شوّهته سنوات الانقسام.
قال تعالى: “واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرّقوا” [آل عمران: 103]