كتاب وشعراء

يا امرأةً من خريفٍ أزليّ،….بقلم محب خيري

يا امرأةً من خريفٍ أزليّ،
تنهضُ الأرواحُ فيكِ نداءً قرمزيًا.
أنا العطشُ الذي لا يرتوي،
كـ”تانتالوس” الأسطوريّ،
أمدُّ يدي لماءٍ ينسابُ هاربًا.
لستُ ظمأَ جسدٍ، بل جوعَ روحٍ تائهةٍ،
تتوقُ لأوّلِ وميضٍ في العدم.
في سِفرِ “هيدرا” العظيم،
يتناثرُ الندى من عينيكِ، قطراتٌ لا تُطفئُ نيرانَ الأزل.
أنتِ “أرتميس” الرامقة، ترسمينَ بخطى الغياب،
دروبَ اللانهاية في صحراءِ قلبي.
كلُّ نهرٍ يجري بعيدًا عن شطآني،
وكلُّ غيمةٍ تمضي دونَ أن تُلقي بظلها.
أخشى هذا الفراغَ الأبديَّ،
أن يكونَ العطشُ مصيرًا، وأن يظلَّ الماءُ سرابًا.
هل تُدركينَ يا حواءَ الأرواح،
أنّ الذينَ يعتنقونَ الريحَ، يُدركونَ ثقلَ العدم؟
نحنُ صدى لـ”سيزيف”،
ندفعُ صخرةَ الشوقِ إلى قممٍ وهميّة،
لتعودَ فتتدحرجَ في هوّةِ النسيان.
فلا الذينَ يُتقنونَ فنَّ التلاشي، يُجيدونَ فنَّ البقاء.
ولا الذينَ يلامسونَ النجومَ بخفّةِ الفجر،
يُدركونَ دفءَ التراب.
ليتكِ لو عرفتِ عمقَ اليباسِ في روحي،
أنا العطشُ الذي يولدُ من رمادِ التوهّج.
مُدانٌ لأكونَ هذا الحطامَ المُضيء،
أبحثُ عن “أثينا” في كلماتكِ،
عن حكمةٍ تُكسرُ أغلالَ الصمتِ الأبديّ.
أنتِ اللحنُ الغامضُ،
الذي ينسابُ من أوتارِ “أبولّو”،
يُسقي أرضًا قاحلةً بالنشيد.
لكنّ صوتكِ، مثلَ همسِ الريحِ في معبدٍ قديم،
لا يروي الظمأَ بل يزيدُه اشتعالًا.
يا امرأةً تراقصينَ النجومَ بعينيكِ،
لم أبحثْ عن قُبلةٍ، بل عن قطرةِ ندى،
تُعيدُ الحياةَ لزهورِ “البرسيفون”.
هل تُدركينَ أنّ العناقَ، ليسَ سوى بئرٍ عميقةٍ،
تُخفي سرابَ الحنين؟
طاولةٌ تُلقي عليها “ديونيسوس” أسراره،
لكنّها لا تُجيبُ عن سؤالِ العطش.
أنا النابضُ الأولُ، الذي يُولدُ من رحمِ اليباب،
مُنجذبًا إليكِ، منذُ همسةِ “أورفيوس” الأولى.
كلُّ ما أردتُه؛ يدًا تُمسكُ هذا الرمادَ المتطاير،
قصيدةً تُتلى على أبوابِ “معبدِ الدلفي”،
صوتًا يتكئُ على أكتافِ “هاديس”.
امرأةً تُطرزُ ثيابَ الفقدِ كـ”آراكنه”،
تُحولُ رقصَها إلى خطواتٍ حائرةٍ،
نزقٍ يرتجفُ ببطءٍ، على حافةِ العدم.
كنتُ أجهلُ، أنّ الرجالَ يخشَونَ النساءَ اللواتي لا يُقدَّمُ لهنَّ “تذاكرُ العبور” إلى “الإليزيوم”.
يهابونَ امرأةً تُتقنُ الصمتَ، كـ”ميدوسا” في حجرِها،
تحفظُ خرائطَ الرحيلِ جيدًا،
وتتمتمُ بأغنياتِ “السايرينات”.
امرأةً تُجيدُ تحليقَ مخاوفها، كـ”إيكاروس” قبلَ سقوطه،
بلا قيدٍ، بلا تسارعٍ، بلا سقوطٍ أخير.
أردتُ أن أكونَ هدنةً تُشبهُ حضنًا في آخرِ المتاهة
خفقةً تنجو بصمتٍ، لا تُؤجّلُ غناءَ “الناي”.
غيّمةً لا تسألُ متى تمطرُ على “أوليمبوس”،
نهرًا لا يحتاجُ إلى ضفافٍ ليعترفَ بـ”جريانهُ الأزليّ”.
أنا رجلٌ يغفو أحلامُ الأطفالِ و”الإلهة” و”فلاسفةِ أثينا” على جبهتهِ العريضةِ رشقةُ نجومٍ حالمة،
كـ”أغنيةٍ ميلوديّةٍ” في مهدِ الليل.
كنتُ أرسمُ خطواتِنا البعيدة،
وتواريخَ اللقاءاتِ المفقودةِ بيننا،
أتركها تنامُ في يدي كـ”طينٍ” من أرض “أبيدوس”
ريحٍ تذروها خرائطُ البكاءِ الشاردة.
امرأةٌ تنبتُ أزهارَ العزلةِ بينَ أصابعها،
دفءٌ يُراقصُ همسَها في المساءاتِ المتعبة،
يتسللُ خفيةً في خاصرةِ الليل،
سحرٌ يتلعثمُ في عينيها.
ليتكِ لو عرفتِني قليلًا…
كنتُ فقط، أريدُ أن أراني في عينيكِ،
“سماءً” أقلَّ زرقة، نرتديها في زمنٍ آخر،
أكثرَ قابليّةً للنجاة،
لأنكِ هنا، جميلة وبهية كمدينة الإله “آمون”
شامخة ومقدسة كجبل “حوريب”
تُطفئينَ نارَ العطشِ الأبديّ.
أن أُخبركِ يومًا: لا بأسَ إن مرَّ التعبُ،
سأغفو لحظةً في عينيكِ،
أُربتُ على كتفِ المسافاتِ بيننا،
وتهدأُ في القلبِ فوضى الهروبِ
لا بأسَ إن شعرتِ بالضياعِ،
سأتركُ بوحًا يُشبهنا،
على الطرقاتِ المنسيّة،
وسأمنحُ سربَ الغيماتِ عشبَ الحنينِ الأبديّ،
كي تعرفَ طريقَ الرجوعِ إلينا.
لم أبحثْ عن الكثير…
سوى وطنٍ لا يسألُني عن اسمي في كلّ ممرٍّ لـ الخلاص
قلبٍ لا يلبسُ ثوبَ “خيباتِ الآلهةِ” المؤجّلة.
ذاكرةٍ، لا تُخطئُ مواعيدها،
لا تزرعُ في كفّها احتمالاتٍ مهجورة،
ولا تقبلُ بـ أنصافِ الحزن،
حين تصلُ خاليةَ اليدينِ،
مُثقلةً بـ جراحاتِ الأزل.
يُضيئها ارتجافها…
كما لو كانت…اعتذارًا غيرَ مكتملٍ من ضلالات العطش.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى