حِل الصرّة تلقى خيطا……قصه قصيره بقلم رياض انقزو

كان أملي أن أتقاضى مرتّبا يليق بمكانة أستاذ، ويكفيني شظف العيش. لم أصعّد من احلامي مطلقا، بل إنّي لم أحلم بأكثر من ذلك. هيّأت كلّ ما يمكن أن يحوّل أملي إلى واقع، أجهدت نفسي في العمل حدّ الإرهاق، إلتزمت بالقرارات النّقابيّة الصّادرة عن هياكل القطاع. كنت من المؤمنين بجدوى العمل النّقابي، لذلك كنت أخالني من الحزام القويّ المنضبط.
هذه السّنة تضخّمت آمالي، فقد انخرطت وبقية زملائي منذ مفتتح السّنة الدراسية في شكل نضالي غير مسبوق. دعانا ممثّلنا النّقابي الى إنجاح قرار هيئة إدارية يقضي بحجب الأعداد.
كان إلتزامي النقابي يثير سخرية البعض، ونقمة البعض الآخر. تحوّلت إلى موضوع دسم للنميمة ولحم شهي على موائد اللئام. حتّى أبنائي اصابتهم الحيرة بين متطلّباته المعاشية ووضعي المادي الذي يزداد بؤسا من يوم غلى آخر.
انتهى الثلاثي الأوّل من السّنة الدراسيّة دون أن أسلّم أعداد التلاميذ لإدارة المعهد. اقترب موعد هيئة ادارية جديدة للتقييم و الإقتراح، غمرتني مشاعر غريبة امتزج فيها الفرح والأمل بالخوف، تذكرت تلك الالف قبلة التي سبق لأحدهم ان أهداها لي ولكلّ المربين وسطا مع كلّ قبلة على آمالي، وركب ظهري ليقودنا من جديد.
سأدخل قاعة الأساتذة يوما لأستمع بشيء من الامتعاض لخطاب ممثلنا النقابي الثوري جدا وللقرارات الجديدة. ستكون لائحة طويلة ممجوجة يغلب عليها التوصيف و التشخيص والمناورة وقرار جديد قديم بمواصلة حجب الأعداد. مع دق الجرس سينهي تدخّله دون ان يسمح لنا بإبداء الرأي أو النقاش. حينها اتيقّن من تبدّد أحلامي وضياع مطالبي.
خرجت من القاعة أجرّ أذيال الخيبة، لم ترتق القرارات إلى الحدّ الأدنى الذي قد يمكّنني من تحقيق أحلامي أو حتى المحافظة على مكاسب سابقة. نظرت إلى محفظتي التي لم أعد اذكر كم من سنة تلازمني وإلى ميدعتي وقد حوّل الطبشور بياضها إلى ألوان الطيف. وتذكّرت ما ينتظرني من ارهاق في قاعة متداعية تحوي ما يفوق الخمسة والثلاثين تلميذا، وطلبات أبنائي المتجدّدة، وتسديد القرض البنكي، وفواتير الماء والكهرباء… أحسست بارتخاء مفاصلي، وعجزت على مواصلة الطريق إلى القسم.
غرق جسدي النحيل في عرق غزير رغم النسمات الباردة التي تميّز طقس اليوم، وتردّدت بداخلي دندنات منبعثات من عود عم صالح مرفقة بصوته الشّجي الحزين وهو يترنّم “حلّ الصرة تلقى خيط”.
رجعت على اعقابي، خلعت ميدعتي، وعدت ادراجي نحو المنزل. تناولت قرصا منوّما وأسلمت جسدي للفراش. نمت نوما عميقا لا يمكنني حدّه بوقت، ما يمكنني الجزم به انّي استفقت مذعورا على صوت زوجتي وهي تناغي صغيرنا وتغنّي
ّ بنت البي…بنت البي..
.بنت البي طلت من الشرفة
قالت شنو عملتوا..”
ضاق صدري، أحسست بألم حاد، التقطّت أعقاب سجائر كنت إدّخرتها لمثل هذا الوقت، دخّنتها بشراهة وغيض أشعرني بدوار. استلقيت من جديد على حافة الفراش، أغمضت عينيّ علّي أحلم من جديد.
رأيتني في لفح الهجير أركب الحافلة وأقصد مدينة الحمّامات لأصلها بعد عناء. كنت اتتبّع ما يرشح من أخبار مؤتمر الجامعة العامة. في قاعة الاستقبال بالفندق تحصّلت على ما تيسّر من بيانات نقابية وأخبار المترشّحين والقوائم، تلذّذت بقراءتها مع بعض المتعبين من امثالي في انتظار انتهاء المؤتمر. طال انتظاري بطول أحلامي، أعلنت النتائج، سحبت جسدي في تثاقل كطير يتخبّط للتّخلّص من الفخّ. أثر الخيبة باد على ملامحي، امسكت البيانات وانكفت على ذاتي في صمت. انعكست صورتي على ارضيّة قاعة الاستقبال بالفندق، تأمّلتها وتذكّرت المؤسس فرحات حشاد يردّد “أحبّك يا شعب”، لم أتمكن من تذكر ما قال بعد هذا، فقد تبدّدت صورته في ذهني وانا اقرا “قائمة ردّ الاعتبار” .