رؤي ومقالات

دراسة نقدية في نص الأديب والشاعر المصري القدير محمد أبو عيد

إضاءة هي الأسمى والأغلى ساق فكرها جبروت أدبي لا حدود لرؤاه ؛ نظرة ثاقبة العمق والإلهام جعلت النص مطيعاً لأمر السيادة الأدبية للشاعرة والناقدة القديرة
الأستاذة الدكتورة مرشدة جاويش شكراً لك أيتها القديرة لهذه المنحة الأدبية التي أهداها قلمك النفيس للنص .

ما بعد القصيدة: (كراكيب) كمجاز تفكيكيّ للمعنى والسلطة
قراءة تفكيكية – رؤيوية في نص (كراكيب) للشاعر القدير محمد أبو عيد
النص:
كراكيب

في فصل الضجيج

تنمو الأشياء بلا طريق

فلا تنادي على صوتك … لن يسمعك !

النهار .. خرج من وراء الصمت

ذهب مغاضباً …. ركن إلى الظل

أطبق جفنيه على تصاويره القديمة

جلس القرفصاء ووضع الشمس بين ركبتيه !

خبا موقد الشرق ….

كان ظلاماً من جهاته الملونة أشرق الرماد

طارت الأرض في الخلاء الواسع

ما من شيء هنا !

داخل ليل الصمت ماتت الجدران

نورك سيترسب في القاع

طينتك ستطفو في بحر الضباب

هي ذي القصائد على الشطآن تنبح

والظلام في النهار يسير ممشوق الخراب ….

وجهك بلا وجه ….. !

ليس لديك أية مخزون من الضوء !

كيف تصنع طيراً جديداً للأيام الممزقة

زهرة العيون تنمو في الغفلة

فلا تتعجب إن مر عطرها الرائي بين الأذنين

بلا أثر بلا إشارة …. !!

في مثل هذا اللوم المطير

مرآة من النوع الجيد

شقت الأنقاض بالندم المر

خرجت ؛ لم تجد غير أشجار الظلام

عادت إلى الأنقاض مرة أخرى تسأل الأموات

من نزع أظافر الشموع !؟

يسألون كما سألوا الشعر من قبل

لماذا ضربت النهار بالتنويم المجازي

قال أتسألون وقد تركت لكم في كل قصيدة إجابة

تخبركم بأن الأحلام المجيبة لا تعمل إلا في عقول معينة

عقول ؛ تحمل في طرقاتها السيف والفأس

من محاسن هذا الصمت الهائل

أننا نستطيع أن نرى عدة أصوات

الشيخ يقول أن الحقل خرج عن طوع الماء

أما الباحث في علوم ما وراء الحياة فله رأي آخر ؟

يقول أن الماء هو الذي خرج عن طوع الحقل !!!

من بين الشيخ والباحث مضى قطار الشمس …

إننا ها هنا مازلنا ها هنا مع العتمات الضالة

على محطة الفذلكات ننتظر كراكيب أخرى !!

محمد أبوعيد

تمهيد نقدي:

في زمنٍ صار فيه الشعر حبيس العتبة والبوح تطل قصيدة /كراكيب/ للشاعر محمد أبوعيد كتجربة لغوية تتقصد الانفلات من الفهم العاجل وتصوغ متاهة رمزية قائمة على التراكم الحسي والدلالي حيث الكلمة لا تشير إلى معناها بل إلى شظاياها
إنها ليست قصيدة تقرأ
بل نتوغل فيها لا لكي نفككها بل لنتورط في مراياها
إنها تجربة لغوية تتأرجح بين الخراب والتأمل وتستنطق العدم عبر استعارات مشوشة عمداً كأنها تتقصد التعثر في المعنى كي لا تفرّط في رؤيتها
إن هذا النص ليس مجرد انزياح بلاغي أو غنائية مبتكرة
بل هو انخراط صريح في عبثية المشهد الوجودي حيث الضباب لا يحجب الرؤية بل يُعرّيها من أوهامها
تندرج هذه القصيدة تحت ما يمكن تسميته بـ/ شعر الما بعد-كارثة/ حيث يتعامل النص مع اللغة كمخلوق مصاب ومع الصور الشعرية كأشلاء رؤى
لا تجتمع لتجسد معنى
بل تتفرق لتؤسس لهدم المعنى بما يقودنا إلى آليات تفكيكية تسائل البنى الكبرى: الضوء- الصوت- النهار- الشعر- الحقيقة
مدخل رؤيوي:
/ في فصل الضجيج تنمو الأشياء بلا طريق/
هكذا يعلن النص عن اشتغاله منذ البداية فوضى موجهة- تيه مقصود-
إذ لا تنمو الأشياء إلّا حيث ينعدم النسق يتأسس المعمار الشعري على نفي المألوف الضوء لا ينير- الجدران تموت- القصائد تنبح- ومن ثم فإن النص لا يفتح أبواباً للمعنى بل يراكمها مغلقة لتصبح الكراكيب رمزاً لكل ما تراكم دون فائدة ترجى أو فائدة تخدع
لا شيء ينمو على هدى بل الأشياء تنبت (بلا طريق) والنهار نفسه الذي عادة ما يكون رمزاً للوضوح والبداية يخرج مغاضباً ويعتزل في الظل جالساً (القرفصاء) كأن الوعي الكوني قد دخل في عزلة احتجاجيّة
يتخذ النص منحى رؤيوياً حيث لا تعود اللغة أداة للإبانة بل فضاء للتشويش المقصود يراد منه قلب المعادلات البصرية والسردية التقليدية فبدلاً من أن (يشرق) الضوء يشرق (الرماد) وبدلًا من أن (تحيا) الجدران فإنها (تموت داخل ليل الصمت) إنها رؤية كونية معكوسة لا تكشف العالم بل تعكس عجزه وتعلن الخراب لا لتبكيه بل لتفضحه
أما عن منطق ( كراكيب) كمفهوم تفكيكي:
إن العنوان لا يحمل فقط دلالة الأشياء القديمة والمتراكمة بل هو استعارة عن فائض الوجود الذي لا يستعاد (الكراكيب) هنا ليست أشياء بل هي الأزمنة المعطلة الخطابات المتهافتة
وأنقاض المعنى الذي حاول أن يكون ثم فشل
وفق القراءة التفكيكية فإن ( الكراكيب) تهدم مركزية (المعنى) فلا صوت يسمع ولا ضوء يختزن والنهار يضرب بالتنويم المجازي
ولذا تتعدد المرايا وتتهاوى السلطة المعرفية بين الشيخ والباحث ولا يعود النص محكوماً بيقين بل بسخرية رؤيوية قاتمة
محورية (الكراكيب) بوصفها بنية ضدّ النسق:
ووفق المنهج التفكيكي تبدأ قوة النص من عنوانه الذي يحمل مفارقة (كراكيب) تدل على ما تم الاستغناء عنه غير أن الشاعر يمنح هذه البقايا سلطة التأويل
نحن أمام قصيدة تُبنى من أشلاء ولا تسعى لإعادة تركيب العالم بل لتفكيك خرابه
إنها لا تحتج على السقوط
بل تكتب عنه بلذة سردية عالية حيث كل صورة تنهار في التالي دون أن تفقد سطوتها التعبيرية كما نرى هنا :
/ جلس القرفصاء ووضع الشمس بين ركبتيه/
صورة صادمة تُفرغ الشمس من عظمتها وتجعلها كرة مهزومة في حضن نهار منسحب
فهل هذا نوع من التسامي العكسي؟ أم سخرية رمزية من الأنساق الميتافيزيقية للضوء؟
والناص يرى أن الشعر توصيفاً هو سلطة خاسرة
في إحدى أقوى لحظات النص يسأل الموتى: / من نزع أظافر الشموع؟/
هنا تتجلى لحظة انهيار الرمزية التقليدية لم يعد الضوء مخلّصاً بل مُعذّباً والشموع بلا أظافر
أي بلا أثر أو قدرة على التوهج
ومن ثم يتطرق الشاعر إلى السخرية من وظيفة الشعر نفسها حين قال:
/ قال أتسألون وقد تركت لكم في كل قصيدة إجابة
تخبركم بأن الأحلام المجيبة لا تعمل إلا في عقول معينة/
هنا ينقلب الشعر إلى حُكم نخبوي لا لأنه يُقصي القارئ بل لأنه يعترف أن الإدراك نفسه بات فعلاً نادراً
الشعر لا يغير العالم
يقول النص بل يحذر من العالم لمن يمتلكون (عقولاً ) قادرة على الإنصات لا الترديد
وأيضاً يبهرنا حين يدخل إلى إشكالية صراع الخطابات من الشيخ إلى الباحث:
ففي قلب النص يقيم الشاعر مشهداً جدلياً بين صوتين:
الشيخ (بصفته تمثيلًا للموروث الديني أو الرمزي)
والباحث (بصفته ممثلًا للعلم أو الوعي الفلسفي)
كلاهما يختلف في تفسير علاقة الحقل بالماء
لكن المفارقة أن الاختلاف لا ينتج حقيقة بل ينتج / قطار الشمس/ الذي مضى تاركاً الخلف في العتمات
النص هنا يشيطن كل خطاب سلطوي : لا الدين وحده
ولا العلم وحده يستطيعان الإمساك بالحقيقة
الحقيقة في النص مراوغة تتحرك مثل الضباب وتتركنا عند / محطة الفذلكات/ ننتظر (كراكيب أخرى)
وبمنهج نقد الخطاب نحن إزاء تفكيك سلطوي للمعرفة لا يثق بأي سلطة مطلقة بل يسخر من الادعاء المعرفي أصلاً
من خلال التجلي بالنص نجد انكسار البنية الزمنية في القصيدة
فلا زمن يقيني يسير للأمام النهار غاضب- الليل كاتم- الضوء يخون- والقصائد تنبح بلا أنياب
هذا الإلغاء للزمن الخطي يحيل إلى رؤية وجودية عبثية حيث يصبح كل شيء دائرة تلد تكرارها لا تطورها
النص لا ينتظر خلاصاً بل يعلن عجز الزمن عن أن يحمل معنى ولهذا نقرأ:
/ إننا ها هنا- ما زلنا ها هنا مع العتمات الضالة/
وكأننا في ختام عرض مسرحي عبثي نعيد ذات الجملة بلا جديد
و/ ننتظر كراكيب أخرى/ كأنها الخاتمة الوحيدة الممكنة للعالم بعد سقوطه
وأكثر مقاطع النص خطورة هي تلك التي تضع (الشيخ) في مواجهة (الباحث في ما وراء الحياة)
كل منهما يمثل خطاباً سلطوياً الأول تراثي يقيني
والثاني حداثي مشكّك
غير أن القصيدة لا تنحاز لأي منهما بل تفضح هشاشة الخطابين:
/ الشيخ يقول إن الحقل خرج عن طوع الماء
و/ الباحث يقول إن الماء خرج عن طوع الحقل
في لعبة المفارقة هذه لا تظهر الحقيقة بل يظهر عبث السؤال
إنها لحظة نقد معرفي تُذكرنا (ببارت) و(فوكو) حيث السلطة ليست في امتلاك الحقيقة بل في ترويج وهمها
والناص اعتبر أن الشعر وثيقة خراب
فالقصيدة تقارب الشعر بوصفه الأثر الأخير لزمن لن يعود
/ هي ذي القصائد على الشطآن تنبح/
إنها ليست تنشد بل تنبح/ صوتها صارخ -منفّر- بلا سحر- ولا إيحاء
لكن رغم هذا تبقى القصيدة هي الجواب الأخير أو كما يقول الناص:
/ أتسألون وقد تركت لكم في كل قصيدة إجابة/
لكن الإجابات مشروطة
/ لا تعمل إلا في عقول معينة/
أي أن الشعر هنا نخبوي انتقائي- بل مخاتل- لا يمنح معناه إلا لمن يفككه
بهذا المعنى النصّ يعيد السلطة إلى المتلقي لا ليستعيد المعنى بل ليصير مسؤولاً عن بنائه
وهذا أعلى مستويات المكر في الكتابة الشعرية
أما عن العدم كمكوّن جمالي : اتخذه الشاعر مضمناً في سياقه النصي
فالقصيدة لا تنتمي إلى التشاؤم بل إلى العدم الجمالي ذلك الذي يجعل من اللاحضور مساحة للتأمل الجدران تموت- الطين يطفو- القصائد تنبح- هذه الصور- وإن بدت صادمة- فإنها تؤسس لما يُشبه
(ميتافيزيقا الخراب) حيث يولد الجمال من فشل النظام
وبرؤية وجودية القصيدة تعترف بعبثية المشهد لكنها لا تكتفي بالرثاء بل تعيد تشكيل وعي جديد يرى في انهيار اللغة فرصة لبناء رؤية غير مهادنة
النبرة العالية تهكماً هي مااختتم فيها النص شاعرنا الفيلسوف
/على محطة الفذلكات ننتظر كراكيب أخرى/
فقصيدة (كراكيب) ليست نصاً يقرأ بل هو متاهة تُشرب ببطء
كانت القصيدة تعمل
وكان الخراب يتجلى كأكثر أشكال الجمال صدقاً
وفي (كراكيب) لم يكن
أ. محمد شاعراً فقط بل ناسفاً للمعنى ومعمارياً للغموض
قلم مغاير متفرد دام اليراع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى