رؤي ومقالات

دراسة نقدية للناقدة السورية الدكتورة مرشدة جاويش/في نص للشاعرة السورية سرية العثمان

احتراق الوجود في قصيدة (هرمون كاوي) قراءة فلسفية صوفية للشاعرة السورية القديرة سرية العثمان
النص :
هرمون_كاوي

قبل الموج
من يا تُراهُ أدركَ احتراق المركب
عدا نجار مُنْهكٌ
مُصابٌ بلعنةِ المِلْح
جاء من زُقاق المساء الأحدب
يخمشُ حقبة الضوء السرمدي وخُطى الظِلال
خلخال فوسفوري موارب
خلف أعِنّة الرُخام
كإيقاعٍ يؤوب لظمأ الهُنيْهة الغافية فوق نمشِ الأبد
وأراكِ ( يا شام )
على حافتي الطاعنة في الهلاك
تراقصين أوبرا الخشوع
تبعثرين تمتماتي
وتخشين السقوط في هاويتي
وهناك المترقبون بُرْهة انكسارنا
كما..
نصُّ البارحة كان مجرد خاطرة
مرّتْ بجوار جِدار أملس فابتلعها ليلٌ حزين
سِيّان عندي الآن
شماتة تغورُ في خاصرة الحكاية
أمْ ربتةٌ آزِرة على كتفِ احتراقي
تلك التي أذكرها عند اللحظة الكونية
الواقعة بين العتمة والضوء
امرأة حنطيّة تقرؤني
وأنا شاعرٌ مطعون بالخيانة
يكتبُ على جدار الليل المُوشى ببقعةِ ضوء هاربة من أتون الشمس
أتجلّى لأرسم فضيلة المسافات بمفردةِ
لا تهابُ الحواف
ولا يُفزعُها التأويل
وأنا أتّقدُ كجذوةِ نارٍ آنسْتُها كتأويلِ مِلحٍ يتصفّد فوق صلصالٍ أعياهُ المقام
أنْتعلُ حُزن الغيبِ
تلك هي الهُنيهة المُقدّسة
الحُبلى ببساطةِ المعنى
للعابرين من هنا نبضٌ فادح الظمأ
كدربٍ مُخاتل
للذين تركوا على صلاتي
رحيق بصمة ثَكلى
تدنو من أنفاس قداسة الروح للائذين بنثار اللغة
وسيماءُ الوجع تفلف تراتيلهم
تكسرهم الفكرة الشيطانية
والتي في عُمْقِها تلمعُ وشاية الدهاء
صلاة الخاشعين
بلا نشازٍ ولا ذبول المُفردة
تنحني لهم زنابق الأرض
حتى قيامة الورد
أهدي لهم ذاكرة من ماء و هواء و قصيدة باكية
هذه الظهيرة الناشئة من روح الشطآن العارية وقيظ الحجر تلوكُ أمزجة النهارات الحامئة ونبيذ الشمس يفور بخوابي الليل الضئيل
أنفرُ من هُوّةٍ
سحيقة لسؤالٍ لئيم
أحشو جمجمتي
الطاعنة في الوهم بفُوّهةِ ثقبٍ باهت
أدخّنُ الضمير الشبحي
لأكتب بأصابع ناشزة
تحت وطأةِ العربدة
ورُغمًا عن أنفِ جينات القبيلة
لألوي عُنُقَ شيطان الشِعْر الأخرس بما تيسّر من عناء

سرية العثمان ٢٠٢٥/٦/٢٤

مدخل رؤيوي:

في القصائد التي لا تولد من عصب الكتابة بل من حطام الحنجرة من تشظّي الروح تحت وطأة الأسئلة المتّقدة تنبثق نصوص لا تشبه الشعر بمقدار ما تشبه النبوءات الحارقة هناك حيث ينعدم الفرق بين الحرف والدم
بين البيت الشعري والجرح المقيم تقف نصوص كهذا النص لا لتقول ما يقال بل لتفكّك ما لا يفكّر فيه
إننا لا نقرأ / هرمون كاوي/ بل نُجرّ إلى إحتماله نتورّط فيه بوصفه كائناً شعريّاً ملغزاً يتّخذ من الوطن مأتماً مؤقتاً ومن اللغة معراجاً لألم لا يروى هنا
لا تتقدّم القصيدة بوصفها خطاباً بلاغياً بل بوصفها طقساً من الإحتراق الوجودي حيث تتماهى الذات الشاعرة مع ظلّ وطنها ومع تشققاتها الأنثوية ومع تموجات الفقد الكوني الذي لا يفصح عن نفسه إلا بارتباك صوفي وشبق لغوي وصلاة بلا نشاز
ولوج للبنية النصيّة
في شعرية الانزياح وتكثيف اللامرئي:
النص يعتمد بنية تفعيلة حرّة غير منفلتة تمكنه من التحرر الإيقاعي دون التفريط في التوتر الداخلي للجملة الشعرية تتداخل الأسطر على نحو يشي بالتحولات النفسية والروحية وتعيد ترتيب دوال اللغة وفق شفرات إيحائية متموجة حيث اللغة ذاتها تصبح فعلاً داخلياً لا مجرد وسيلة
البنية تتحرك عبر خط تصاعدي درامي غير صريح يبدأ من توصيف لحظة ما قبل الكارثة (قبل الموج) مروراً بأصوات الهشاشة والانكسار إلى التجلي القدسي في نهايات القصيدة دون إغلاق المعنى أو حصره
والأسطر تنمو كما ينمو الجمر في جوف الرماد حيث تتقدم الصور عبر تفجيرات استعارية عالية التجريد مثل:
/ أتجلّى لأرسم فضيلة المسافات بمفردةٍ لا تهابُ الحواف/
/نبيذ الشمس يفور بخوابي الليل الضئيل/
وكل صورة هنا ليست مجرد وصف بل نقل للمشاعر من الحضور الحسي إلى التجريد الفلسفي
فالنص كما نوهنا له بنية تفعيلية حرة تنتمي إلى الجيل الثالث من الشعر الحديث حيث لا تلتزم القافية أو الإيقاع التقليدي
بل تنشئ إيقاعها الداخلي عبر التوتر والانزياح وتراكم الجمل التصويرية
لا توجد قصيدة خطية هنا بل بنية دائرية تتسع ثم تعود حيث بدأت /قبل الموج/ كعتبة أولى وتحمل القارئ إلى الذروة التي تلتبس فيها صورة /الشام/ بصورة الذات والهاوية ثم تتراجع نحو التأمل الصوفي وتنغلق على احتراق صامت يحمل ملامح /صلاة/
تعمل اللغة في النص لا كمجرّد وسيلة بل كـ(حقل اشتعاليّ) فكل مفردة مشحونة بطاقة تأويلية مكثّفة مثل:
/ نجّار منهك/ / لعنة الملح/
/إيقاع يؤوب/
/ نبيذ الشمس/ / الضمير الشبحي/ /جينات القبيلة/
/أنْتعلُ حزن الغيب/
هذه الصور لا تكتفي بوظيفتها البيانية بل تستدعي فلسفتها من ذاتها أي أن المعنى لا يستورد بل يتكوّن داخل العبارة نفسها كما يتكون الجنين في الرحم
وأيضاً بالتمعن بسياقات وتتبعها نجد أنها تنتمي إلى فلسفة النكوص الوجودي : حيث الذات الشاعرة لا ترى في الوجود سوى انحدار ميتافيزيقي باتجاه الفراغ تتجلى هذه الرؤية من خلال ما يمكن تسميته بـ (الاغتراب الكوني) :
العبارات مثل /هاويتي/
/جمجمتي الطاعنة في الوهم/
/فُوّهة ثقب باهت /
/الضمير الشبحي / كلها ترسم معماراً داخلياً للانهيار لا بوصفه ضعفاً بل كنمط أصيل للوعي
فالنص ينهل من تقاطعات الفكر العدمي-النبوي
– الجمالي-
فالشاعرة لا تطرح حلاً ولا تؤمن بالخلاص النهائي
بل تمارس الكتابة كـ( تجلّ شعري) يجعل من الانهيار فعلاً معرفياً
الفعل الشعري هنا ليس مجرد إنتاج للمعنى بل استبصار في عتمة الوجود حيث (الضوء) ليس خلاصاً بالضرورة
بل مجازاً للامعقول
و (الشمس) ليست نوراً بل (أتوناً) و(القصيدة) لا تنقذ بل (تبكي)
إذاً الذات نراها كهاوية والمعنى كإحتراق :
إذ تسبح القصيدة في أفق وجودي مظلم تتماهى فيه الذات مع التهشم لا يوجد يقين- لا مَعبر آمن-
بل كل شيء مائل نحو الهاوية
وتبدأ القصيدة بمشهد الإنذار ما قبل الغرق / قبل الموج/ كأنه يوازي لحظة ما قبل الخراب الوطني أو الشخصي أو الكوني
/ وأراك (يا شام) على حافتي الطاعنة في الهلاك/
ليست مجرد مخاطبة للشام بل مرآة لهلاك الذات
لحدود الكينونة التي تتآكل الخطاب هنا مزدوج :
(للمدينة – للوطن )
( وللنفس- للمرأة) وكأن كلاهما معلق على ذات الحافة التي لا تعرف المصير
هذا النص لا يقول (أنا هنا) بل ( أنا الهاوية)
وهو بهذا ينتمي إلى الأدب الوجودي الذي يفرغ اللغة من ادعاء اليقين ويلبسها صفة الانهيار الجميل
نجد الناصة تماهت فلسفياً ووطنياً وصوفياً في نصها فالصوفية عندها هي
خلاص عبر الحرق الطوعي :
ففي قلب القصيدة تتوهّج صوفياً شعرية لا واعظيّة
إننا أمام كتابة تجيد الالتقاط من مسافة بين (الناسوت) و(اللاهوت) اللحظة (الكونيّة) بين (العتمة والضوء) اللحظة التي / تقرؤها امرأة حنطيّة/ اللحظة التي تكتب فيها القصيدة بـ/أصابع ناشزة/ تحت / وطأة العربدة / كلها تشير إلى وعي عرفاني متجاوز صوفياً القصيدة فهي ليست صوفية تقليدية بل أنثى رمزية تقرأ الشاعر وهو يكتب حتفه بلذة معرفية إذ تصبح ( الكتابة) طقساً روحياً و( القصيدة) فعل تطهر : / أنْتعلُ حُزن الغيبِ /
/ تلك هي الهُنيهة المُقدّسة الحبلى ببساطةِ المعنى/
الجملة الأخيرة تختصر صوفياً هذا النص : فعل إيمان شعري بوجود معان كامنة تحت الرماد لا تدرك إلا باحتراق طوعي
فالنص في ثلثه الأخير يتحول من نبوءة مكسورة إلى ما يشبه المقام الصوفي حيث يتحرر الوعي من التسميات والمواقع
ويبدأ الحضور الكوني
مع تلك العبارات التي نوهنا عنها تقارب مفهوم / اللحظة الكشفية/ عند المتصوفة حين تتسع اللحظة الزمانية لتصبح كونية حبلى بكل المعاني التي لا تقال
فالصوفية لدى الناصة ليست نسكية بل شبقية وجودية حيث تشتعل الذات بوهج المعرفة الصامتة وتكتب من داخل الاحتراق لا من خارجه
كما يقول النفّري : (كلّما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة) وهذا ما يحدث بالضبط في هذا النص حين تتحول اللغة من وسيلة إلى أثر
ومن خطاب إلى رؤيا
فالوطن مُرمز لدى الشاعرة فالشام كأنثى/كهامش/كهاوية
(الشام) في النص ليست حيزاً جغرافياً كما وجدناه بل كائن شعري أنثى تراقص الخراب وتخشى السقوط
في ذات الوقت الذي تخيف فيه الشاعر من انهياره
لا حديث عن معارك أو شعارات بل عن انكسار كوني تجسده الشام بوصفها مرآة للذات
/تخشين السقوط في هاويتي/
كأن الوطن نفسه لا ينجو إلا إن نجت الذات والعكس
هنا تتحول العلاقة بين الذات والوطن من علاقة انتماء إلى علاقة تجاذب قدري : كلاهما هش وكلاهما مأهول بالمترقبين / بُرْهة انكسارنا /
بهذا يتحقق البعد الوطني لا عبر التمجيد بل عبر توصيف مرعب للخراب الآتي بصمت داخلي
فالوطن (يا شام) ليست مجرد نداء بل لحظة سورية وجودية الوطن في هذا النص ليس مكاناً بل أفق سقوط كوني تتداخل فيه التراتيل مع الشظايا
الشام هنا كائن أنثوي يرقص( أوبرا الخشوع) ويخشى السقوط في هاوية الشاعرة إن العلاقة بينهما تشبه علاقة المتصوف بالذات الإلهية : محبة مشتهاة مقرونة بالخوف والتلاشي
الوطن ليس المحور بل الصدى الروحي للقصيدة حيث يتقاطع مع الجسد واللغة والقصيدة والخيانة والدموع
الوطن شاهد على انكسار أوسع من جغرافيا هو مجال للانكسار الكوني
فالشاعرة أخذت مسار بأن الشعر يكتب ضد الصمت
فالقصيدة تعلن ولادتها من النفي : من النشاز- من البكاء- من/ أصابع ناشزة/
من /عربدة/ من /جينات القبيلة/ من / شيطان الشعر الأخرس/
وفي هذا تكمن خصوصية النص إنه شعر يقاوم الصمت ويكتب من موقع الخروج عن المألوف الجمالي والدلالي معاً
فالقصيدة ليست بحثاً عن توازن بل انحراف مقصود يشبه في جوهره (لوي عنق شيطان الشعر) حتى يُفصح
الشعر كصلاة لا تعرف النشاز
في نهاية القصيدة تستحيل اللغة إلى طقس ويعود الجسد إلى صمته لا لأنه عاجز بل لأنه قال كل ما في وسعه أن يقال: / أهدي لهم ذاكرة من ماء وهواء وقصيدة باكية/
ليس هناك خلاص لكن هناك اعتراف وهناك ذروة تشبه الصلاة بلا انحراف لفظي بلا نشاز شعوري
إنها القصيدة وقد بلغت طهارتها الأخيرة حيث تتحول الندبة إلى وِرد والحزن إلى أثر مقدس
فالنص لايغلق على معنى
بل يبقي روحه مشرعة على كل ما لا يقال كأنّه قصيدة مفتوحة على اللانهائي على المجهول على الحافة التي تشبهنا جميعاً
وحين يصبح الحزن نبياً
في هذه القصيدة لا تحضر الذات الشاعرة كضحية بل كمبشّرة بخراب نبيل
بكتابة لا تؤمن بالخلاص بل بالاعتراف بالاندلاق بالاحتراق كشرط للرؤية
إنها قصيدة تنتمي إلى شعر ما بعد الألم حيث تصبح اللغة مرايا متكسرة لروح تدمن التجلي وتستدعي الوطن والمرأة والفكرة والجسد والضوء والرماد لا بوصفها أشياء بل كـ(مقامات) داخل تلاوة روحية
وحده الشعر كما في هذا النص هو الذي يقدر على أن يصوغ الهاوية بيتاً وعلى أن يحول الوجع إلى تراتيل
لا نشاز فيها وأن يجعل من القصيدة صلاة وندبة ومخطوطة نجاة مؤجّلة
بانتهائنا من هذا الغوص نكون قد لامسنا مناطق نادرة في شعر أ. سرية العثمان حيث تنصهر الحدود بين الذات والوطن واللغة ويولد الشعر من رماد حيّ لا يطفأ إلا بماء الرؤيا
سرية العثمان تكتب لا كي تُشفى بل كي تبقي الجرح يقظاً يقظاً بما يكفي لنسميه شعراً
سلم اليراع ايتها القديرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى