حمزه الحسن يكتب : ضجيج الذين لا يحاربون

ــــــــــــ لا بُدّ أن تكون لدى المرء ثقة بالعالم ، حتى يُقدم على الإنجاب* رواية: بلا دماء، الايطالي أليساندرو باريكو.
الذين لا يحاربون هم اكثر الناس ضجيجا وكذبا حسب جورج اورويل،
الذين يجلسون خلف المكاتب والغرف الامنة امام فنجان قهوة هل يعرفون معنى سقوط قنبلة فوق محاربين او عزل؟
هل عرفوا معنى جمع اشلاء؟ ونقل محتضرين؟ هل شموا رائحة الغبار والموت ؟ هل عرفوا معنى اختراق شظايا الاجساد والم القتلى؟
الحرب ليست مجرد رصاص وقنابل ودخان وصفارات الانذار وتشييع جنازات، بل الحرب هي النوافذ الزرق والاضواء المطفأة واليتم والخوف والقنابل لا تسقط فوق بشر وبنايات بل فوق قناعات واوهام ولغة وثقة وتحطم اليقين في ان كل شيء على مايرام،
تقتل القناعة اننا جاهزون للأسوأ واننا متحدون ثم نكتشف اننا نحمل موتنا في جيوبنا وفي هواتفنا وفوق مكاتبنا وفي حواراتنا التي كنا نعتقد انها سرية،
نكتشف تحت القصف والاشلاء ان الحياة ليست نزهة في حديقة، وان عدم اليقين سيحل محل اليقين، واللامتوقع هو الواقع، والواقع وهم الأوهام وتلك الثقة العالية بالنفس والطمأنينة كانت خدعة كبيرة للذات والثغرة التي تسلل منها العدو.
هل يعرف هؤلاء في الغرف الآمنة معنى حوار مبتور ورحيل مبكر وتحية لم تصل ورسالة لم تكتمل ووداع لم يحدث؟ من يخبرنا عن هذه الخسائر المنسية؟
وهل يعرف، هل يعرف، ان القنابل التي سقطت فوق برلين كما قال أريك ماريا ريمارك مؤلف” للحب وقت وللموت وقت، وليلة لشبونة، وثلاثة رفاق” الذي أمر هتلر بحرق رواياته في الساحات العامة، إن القتابل فوق برلين سقطت فوق لغة المسرح والأدب وفي العلاقات العامة وفي نظام الحياة وفوق الضجيج وهتافات الابادة النازية؟
الذين لا يحاربون هم في الواقع الجيش الاحتياطي للعدو وجزء من ادواته الاعلامية لان الغباء اخطر من الشر الذي يمكن مواجهته. هل يعرف هؤلاء معنى البحث تحت الانقاض عن ضحايا وسماع صرخات الاستغاثة ورعب الامهات والزوجات والاطفال تحت سلالم المنازل وفي العتمة الباردة؟
هؤلاء الذين يجلسون في مكان هادئ نظيف حسن الاضاءة عندما تنتهي الحرب يبرعون في حساب الخسائر كما لو ان بقالية أو دكان عطار انفجر وليست شعباً كان معرضا للهتك والتمزيق،
هؤلاء يحسبون كم عدد القتلى وكم عدد الصواريخ التي دمرت وكم عدد الغارات وكم وكم ، لكن هل عرف هؤلاء ماذا جرى للأرواح والنفوس والأعماق من انفجارات لن تنسى أبداً؟
لقد عشت حربين مدمرتين في الخطوط الأمامية، سبع سنوات حرب عصابات في الجبال وثماني سنوات في الحرب مع ايران، واكتشفت كما حدث للمخرج الامريكي ستيفن سبيلبرغ مخرج فيلم انقاذ الجندي ريان ان كل افلام هوليود عن الحرب كانت كذبا ومن تاليف اشخاص لم يحاربوا لحظة عندما شرح له والده تجربته في الحرب وهم في الحديقة وكان الاب يشوي لحماً عندما كان اللحم يلتصق بالمشواة قائلا له:
” هذه هي الحرب”.
من السهل على ما يسمى المحللين الاستراتيجيين ـــــ تنتابني نوبة من الضحك الممزوج بالاحتقار ـــــ عندما أسمعهم كيف يتحدثون عن الحرب كمباراة كرم القدم او مصارعة ثيران او شجار في مقهى او حانة وعن عدد القتلى والثكنات والاسلحة المدمرة ومن انهزم ومن انتصر لكن هؤلاء يصابون بالذعر من انفجار بالون أطفال أو انطفاء الكهرباء فجأة أو انفجار اطار سيارة في الشارع.
ليس الموت في الحرب هو الموت العادي على سرير ، أبدا ليس هو، عندما تقف على جثة جندي محتضر يطلب منك سيجارة أو جرعة ماء لا يكمل شربها، أو عندما يريد أن يقول كلمة لكنه ينطفئ ويتلاشى كقمر بين الغيوم.
هل عرف هؤلاء” هذه الخسائر الجانبية”؟ هل عرف هؤلاء معنى انتظار محارب من أم أو أب أو أخت أو ابناء أو زوجات من خلف النوافذ في سماء مغطاة بالطائرات؟
الهجوم والهجوم المقابل ليست كلمات بل هو الوحش والقيامة وفوضى الحواس والغياب الابدي ومواعد لم تكتمل وتاريخ مبتور واحلام اجهضت. هل يعرف هؤلاء ذلك؟