رؤي ومقالات

السفيره أمال مراد نكتب :غواية التوحش

من زمان باتعجب من المكانة “الرفيعة” اللي بتحظى بها إسرائيل في خطاب اليمين الجديد (البديل أو الشعبوي أو المتطرف) اللي وصول ترامب للبيت الأبيض كان إيذان بذروة توسعه وتأثيره.
الموضوع مش مجرد تماهي مع مواقف إسرائيل أو حتى “تقديس” مبالغ فيه لما تعتبره حقوقها. الموضوع إنها واخدة في خيالهم وخطابهم حجم غير منطقي. رئيس الأرجنتين الحالي خافيير ميلاي له مقولة بيكررها بتجسد عدم المنطقية ديه، بيعتبر فيها الولايات المتحدة وإسرائيل وحدهما مرجع أو منارة “العالم الحر” اللي بيتمناه وعايز يخلقه في بلده.
ليه بلد صغير وغرقان في مشاكل وجود في إقليمه وبيراكم انتهاكات لكل قواعد القانون والأخلاق ياخد الحجم ده في بلدان قريبة وبعيدة؟ وليه الإفصاح الشديد ده بالإعجاب بها؟ إيه المكاسب اللي ممكن تحقيقها من ده؟
فيه تفسيرات عقلانية كتير، وكلها لها وجاهتها:
منها إن تملق إسرائيل وسيلة لمحو وصمة معاداة السامية المقترنة باليمين المتطرف في الغرب، أو وسيلة لجذب تأييد المسيحيين الصهاينة المخلصين لإسرائيل بأعدادهم الكبيرة والمتزايدة في مناطق منها أمريكا اللاتينية وقدراتهم المالية الـضخمة، أو وسيلة للحصول على دعم إسرائيل وجماعات الضغط التابعة لها في أروقة النظام السياسي الأمريكي اللي قراراته بتأثر في مقدرات كل بلدان العالم.
ومنها الإعجاب بنجاح اليمين الإسرائيلي في السيطرة شبه التامة على الحكومة وتحجيمه لليسار.
ومنها كمان إن صيغة ما من الإسلام والمسلمين وسكان بلاد المسلمين (بما فيهم المسيحيين العرب يعني)، سواء كمهاجرين لونهم غامق وعاداتهم غريبة، أو إسلاميين بيهددوا العلمانية وبيجلبوا التخلف، أو إرهابيين بيسببوا العنف والقلاقل في “المجتمعات الحرة”، أو ليبراليين ويساريين مضحوك عليهم، كلهم عدو مشترك بين إسرائيل والتيار اليميني ده وبيبنوا خطابهم وروايتهم على إثارة الخوف منه. يعني إسرائيل حليف مفيد وذو خبرة في المواجهة مع “الخطر” ده.
زي ما قلت الأسباب ديه كلها حقيقية ووجيهة ومقنعة، لكن بعد ٧ أكتوبر أصبحت أشعر إنها مجرد حجج عقلانية لتبرير هوس أعمق بإسرائيل، يكاد يكون على مستوى العقل الجمعي الباطن لمنظري ومنتسبي هذا التيار، غير المنتسبين له لكن بيحترموهم.
هو هوس “بوحشية” إسرائيل ذاتها كنموذج يحتذى به، هوس بقدرتها على تطبيق كل أشكال القمع والتنكيل ضد من تعتبرهم في نهاية المطاف “برابرة العصر” دون اكتراث بقواعد قانون أو أخلاق يلقيها أحد في واجهها، ودون حتى التنازل عن إدعاء علو أخلاقي دون إلقاء بال لكونه إدعاء لا يقتنع به أحد. يعني الهوس بإسرائيل مش رغم ما تقوم به من انتهاكات، وإنما بسبب ما تقوم به من انتهاكات.
صورة الحصن الاستعماري المتمسك بمشروعه الناجح دون اكتراث بما أنتجته عقود طويلة من “هراء” أو “صوابية سياسية ممجوجة” في موضوعات مثل التحرر الوطني والمساواة في الحقوق وعدم التمييز والتعددية الثقافية، وعدم خضوعه في أي وقت “للقواعد الليبرالية” التي قام عليها نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية وتم التوسع في خطابه (وتسليحه ضد الخصوم) بعد نهاية الحرب الباردة، ونجاحه في فرض إرادته على ما يعتبره هذا التيار الصاعد “النخب الليبرالية الفاسدة”، هذه الصورة هي التي جعلت إسرائيل هوس عند هذا التيار الصاعد. هوس بالتوحش في حد ذاته وعودة إلى قلب الظلام. إسرائيل الوحشية ديه بقت أرض ميعاد هذا التيار المطلوب العودة لها فعلا.
ونجاح إسرائيل بعد ٧ أكتوبر في كسب تأييد حكومات الدول الغربية الكبيرة، ودون إنكار الأسباب الجيوسياسية العقلانية لهذا التأييد، هو في جوهره استسلام واسع من تلك الدول لغواية التوحش الإسرائيلي، وتسليم بخيار التوحش كمخرج من أزمات تلك المجتمعات، لأنهم لا بد واعون أنهم لن يتمكنوا من اللجوء أو إدعاء أو المطالبة بقانون أو أخلاق بعد اليوم، وأنهم بمواقفهم في هذه الحرب اختاروا أن يعيشوا بالتوحش.
وفقا لهذا الفهم، يكون الخلاف الأخير بين حركة MAGA وإسرائيل حول الحرب على إيران لا يمثل تراجعا عن خيار “التوحش”، ولكنه خلاف على من سيقرر استخدامه ولمصلحة من. أي أنه مجرد خلاف على مركز إدارة التوحش لا أكثر ولا أقل.
وإن كان لهذا الفهم وجاهة، وإن صح أن حكومات الدول الأقوى بتأييدها لإسرائيل اتخذت قرارا استراتيجيا بالاستسلام لغواية التوحش، فإن هذا لا ينفي ولا يقلل من حقيقة وقيمة ومحورية مقاومة قطاعات مهمة داخل تلك المجتمعات بهذا الخيار الشمشوني، اللي منها مواقف الحكومات الداعمة لفلسطين وحركة الاحتجاج على التوحش والتضامن مع فلسطين، بل يزيدها.
وأنا من اليوم أكثر اهتمام وانجذابا للسياسة الخارجية والدور العالمي للصين، لا لأنها دولة مثالية ولا قادرة، ولكن لأنها دولة كبرى ومصلحتها تتعارض مع سيادة التوحش ده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى