الرؤية النسوية وتشظيات السرد في رواية .. “عِقد المانوليا” للكاتبة نعيمة السي أعراب” بقلم الأستاذ: Tahri Noureddine

🔴 الرؤية النسوية وتشظيات السرد في رواية
“عِقد المانوليا” للكاتبة نعيمة السي أعراب”
بقلم الأستاذ: Tahri Noureddine
لا تُقرأ رواية “عِقد المانوليا” بوصفها سردا بسيطا لتجربة ذاتية، بل بوصفها تشكيلا جماليا للوعي النسوي المُثقل بذاكرة الخسارة والهشاشة الوجودية. في نصّها، تحفر الكاتبة نعيمة السي أعراب بلغة مشبعة بالشعر والرمز في تضاريس الروح، وتستعيد من خلال البطلة عايدة المأزق الكياني للمرأة العربية، ليس فقط في بعدها العاطفي، ولكن بوصفها كائنا كاتبا، يُسائل ذاته والعالم والمجتمع. الرواية، بهذا المعنى، تتجاوز البنية الكلاسيكية لتُشكّل نصا مفتوحا، قائما على التجزئة، الارتداد الزمني، وتمجيد البوح الحميمي.
في مركز السرد، تتجلّى شخصية عايدة لا كأنثى تقليدية محكومة بثنائية العاطفة والعقل، بل ككيان إنساني هش، يتقد بالأسئلة الوجودية. هذا ما تؤكده لحظة ارتباكها أمام مراد، حين “كادت تفقد التوازن وتسقط لولا أنه أسرع، فأمسك بها” (نص: افتح عينيك)، وهي لحظة تكشف عن القلق الداخلي الذي يسكنها، لا بسبب المفاجأة فقط، بل لعمق الجراح التي راكمها غياب نوري. هنا لا يعود نوري مجرد رجل في حياتها، بل يتحول، كما في النص، إلى قناع لذاكرة الفقد والانكسار الداخلي، وهو ما تؤكده عباراتها المشحونة حين تسأل بارتباك: “ولكن كيف عرفتني واتصلت بي؟”(ص7)، وقلقها حين تسأل مراد إن كان هاتف نوري يحتوي على “رسائل امرأة أخرى؟”، ما يحيل إلى أزمة ثقة عميقة.
أما كمال، يكرّس حضوره كصوت داخلي أكثر من كونه منافسا فعليا، ويعكس ذلك استغراق عايدة في الذكرى بدل التفاعل مع الحاضر، ما يعزّز فكرة أن “حضور الذكرى يظل أكثر كثافة من حضور الواقع”.
شخصية مراد، في المقابل، تظهر بوصفها ناقوسا للماضي، كما تقول الرواية، بأنه يعيد رنين الجراح القديمة، وهو ما يظهر جليّا في الجمل التي ينطق بها بهدوء مدوٍّ: “نوري تعرض لحادث…” (ص 6)، ثم يقدّم التفاصيل بصوت أجش وحضور يشبه الظلال، فيفتح الباب لجراح جديدة تمتزج بذكريات قديمة لم تندمل.
أما الشخصيات الثانوية مثل صديقات البطلة، فهي ليست حشوا سرديا، بل امتدادات حسّية واجتماعية لتمزق الذات، تشكل طيفا موازيا لحكاية عايدة، وتجعل من الحكي فضاء مشاعا ومتعدد الأصوات.
الرواية تعيد تشكيل المدن بوصفها حالات وجدانية تتجاوز مجرد كونها معالم جغرافية. تظهر الرباط وسلا كتوأمين متقابلين، منفصلين في الزمن ومسارات العبور، حيث يشكل نهر أبي رقراق شاهدا ميتافيزيقيا على تردد الذات بين ضفتيه: ضفة الحنين وضفة التغيير.
محل “الرباط أنتيكا” لا يقتصر على كونه مكانا لبيع التحف، بل يتحول إلى فضاء لالتقاء النظرات، يتقاطع فيه الصمت الداخلي مع الخطاب الرمزي، في علاقة حميمة تعبّر عن عمق التواصل والذاكرة المشتركة.
أما شالة، فتمثل، بما تحويه من طبقات أثرية، استعارة لمقبرة العاطفة، حيث تتحول كل الذكريات إلى آثار صامتة، وتستعرض الساردة عايدة مشيها بين أنقاض ما تبقى من الحب، محاولة استعادة ما تهدم.
المدن الأخرى في الرواية لا تُسجل كخرائط فقط، بل تُرسم كوشوم محفورة على جسد الساردة، معبرة عن فقدان الهوية والتمزق الداخلي، لتصبح هذه المدن فضاءات للغربة والاشتياق أكثر من كونها محطات عبور.
تنهض رواية عِقد المانوليا على فكرة جوهرية، هي: تجربة المرأة الكاتبة في مواجهة الانكسار العاطفي بوصفه لحظة كاشفة لمعنى الوجود، وسعيها إلى إعادة بناء ذاتها عبر استحضار الذاكرة ومساءلة الهوية في عالم مأزوم. لا تسرد الرواية قصة حب فاشلة فحسب، بل توظف تجربة البطلة “عايدة” في مشروع تأملي معرفي، تتخذ فيه الخيبة العاطفية منطلقا لإعادة تشكيل الذات.
يظهر منذ البداية أن العلاقة بين عايدة ونوري لم تكن مجرد علاقة عاطفية، بل كانت حوارا صامتا حول المعنى، الحضور، والخذلان. تقول عايدة:
“نوري! أفق من فضلك! اِفتح عينيك!” (ص9). فهنا لا تكتفي الكاتبة بتسجيل حالة نوري الصحية، بل تضع القارئ أمام إشكالية الغياب الوجودي للرجل، وتحول الخذلان إلى صدمة وجودية.
الأساس في هذه التجربة ليس الألم وحده، بل ما ينجم عنه من شرخ داخلي يجعل الشخصية تعيد النظر في الحب، والكتابة، والهوية، والماضي، والمكان، والصدفة، والموت. تقول البطلة في لحظة وعي مباغتة:
“حياتنا لحظات، لحظات فقط. لحظات هشة لكنها ثمينة، عظيمةً كانت أو بائسة، عذبةً أو بالغة المرارة؛ إنما تعودنا على قلة الانتباه، مع ذلك الشرود المتكرر عن الطريق الذي يوصلنا إلى اكتشاف قيمة كل شيء!.”(ص5)
وهنا يتجلى البُعد التأملي للفقد، حيث يتحول من مجرّد حادث عابر إلى أفق فلسفي يعيد مساءلة قيمة الأشياء.
يتجلى هذا البعد أيضا في ردود فعل عايدة بعد لقائها بمراد، شقيق نوري، حين تخبرها الصدفة أن الرجل الذي أحبته دخل في غيبوبة بعد حادث:
“صعقتها كلماته، كادت تفقد التوازن وتسقط لولا أنه أسرع، فأمسك بها.”(ص7)
ثم يأتي الانفجار الداخلي حين تكتشف أن نوري لم يخنها، رغم ما كانت تظنه، فتتداخل المشاعر:
“اختلطت عليها المشاعر؛ هل تحزن على ما أصاب نوري أم تُفرح لأنه لم يخدعها؟”(ص7)
هنا تصبح الرواية مرآة لتفكك الثقة، لا بين عاشقين فقط، بل بين الإنسان وظنه بنفسه، وذاكرته، وتوقعاته.
رغم أن نوري يبدو غائبا جسديا، إلا أن حضوره في ذهن البطلة يبقى طاغيًا، ويتحول إلى صورة رمزية للرجل الغائب دوما عن المسؤولية العاطفية. فحين يسألها مراد عن مدى معرفتها بنوري، تجيب:
“هو لم يحدثني عنك يوما.”
ليعلّق مراد بنبرة خفيفة:
“لا أظنه يفعل! نحن مختلفان كثيرا، وإن تشابهنا في الشكل.”(ص7)
العبارة هنا ليست بريئة؛ إنها تشير إلى ازدواجية الحضور الذكوري، ذلك الذي يبدو حاضرا شكليا، لكنه غائب فعليا عن التورط في الألم، والاعتراف، والمواجهة.
إن أبرز ما تتيحه الكاتبة في هذه الرواية هو أن الخذلان لم يكن نهاية الحكاية، بل بدايتها. فلحظة الانكسار هنا ليست لحظة سقوط، بل لحظة وعي ويقظة. يتجلى ذلك في قول الساردة: “تفرّست في ملامحه. الآن فقط انكشف لها الاختلاف؛ عيناه أكثر اتساعا ولونهما غامق، عكس عيني نوري البنيتين الفاتحتين؛ نظراته حادة، وجهه أقل امتلاءً وخالٍ من الندوب؛ إنما لم تتمكن من تحديد أيهما الأكبر سنًا.” (ص6\7). إنه اكتشاف متأخر لحقيقة الآخر، لا باعتباره منقذا، بل ككائن متحوّل لم يعد يستجيب لصورتها الأولى عنه. ويغدو الخذلان مناسبة لخلخلة الصور الذهنية، ولإعادة ترتيب عناصر الهوية.
رواية عِقد المانوليا ليست رواية عن الحب، بل عن موت المعنى في العلاقات، وعن البحث عن الذات بين ركام الخيبة. تتجلى قوة النص في قدرته على تحويل تجربة شخصية إلى تجربة إنسانية شاملة، حيث يتحول الحزن إلى معرفة، والخذلان إلى أداة تأمل. والرواية في ذلك تنتمي إلى الروايات الوجودية التي تجعل من الذات الأنثوية مركزًا للمعرفة والبحث عن المعنى.
تنهض رواية عِقد المانوليا على فكرة أساسية هي: تجربة المرأة الكاتبة في مواجهة الانكسار العاطفي بوصفه لحظة كاشفة لمعنى الوجود، وسعيها إلى إعادة بناء ذاتها عبر استحضار الذاكرة ومساءلة الهوية في عالم مأزوم. لا تحكي الرواية مجرد قصة حب فاشلة، بل تضع البطلة، عايدة، في صلب مشروع تأملي وجودي، حيث يتخذ الفقد بعدا معرفيا، وتنقلب العلاقة مع الآخر إلى سؤال عن الذات، وعن علاقتها بالزمن والمكان والمصير.
الأساس في هذه التجربة، ليس فقط الألم الذي يتولد من خيانة أو خذلان، بل ما ينجم عنه من شرخ داخلي يجعل الشخصية تعيد النظر في كل شيء: الحب، والكتابة، والهوية، والماضي، والمكان، والصدفة، والموت. عايدة لا تتلقى الصدمة كضربة، بل تستدعي منها كل ما سبقها وما تلاها، كأنّ الخذلان فتح فجوة واسعة في الزمن، وجعلها تُنقّب في تفاصيل منسية لتعيد تركيب صورتها الذاتية من جديد.
يتجلى ذلك من خلال علاقتها بنوري، التي تتجاوز ثنائية الحب والخيانة، لتصبح مثالا للانهيار الرمزي للثقة. نوري ليس فقط حبيبا، بل يمثل نموذجا للرجل الذي اختار الغياب، الصمت، والانسحاب من المعنى. حين يدخل في غيبوبة، لا يكون غيابه جسديا فقط، بل وجوديا. تقول عايدة: “نوري! أفق من فضلك! اِفتح عينيك!”(ص9). هنا لا تتحدث عن الحالة الطبية، بل عن اختفاء الحضور، وعن عطبٍ في إمكان أن يُحِبّ الرجل امرأةً دون أن يتورط في إذلالها أو خيانتها أو التخلي عنها.
تتوسع الفكرة حين يدخل كمال، الحبيب المحتمل الآخر، الذي لا يمثل بديلا عاطفيا، بل يجيء كمقترح للعبور نحو المعنى، لكنه لا يكتمل. فحتى العلاقات الجديدة لا تقدم خلاصا، لأنها لا تُلغي الماضي، بل تتقاطع معه وتنكشف في ضوئه. كما يظهر مراد، شقيق نوري، ليوقظ جراحا قديمة، وكأن الماضي لا يرحل، بل يتنكر في وجوه جديدة، ويعاود الحضور من حيث لا يُتوقع.
هذا البناء يجعل من الرواية رحلة في مستويات الذاكرة، لا لاستعادتها من أجل الحنين، بل لاختبار صلاحيتها لفهم الحاضر. عايدة لا تبكي على الماضي، بل تفككه، تراقب تفاصيله، تبحث فيه عن لحظات الانكسار الأولى.
في علاقتها بالأمكنة، لا تتعامل الرواية مع الرباط وسلا و… بوصفها مدنا، بل بوصفها فضاءات شعورية. تتكرر العودة إلى نهر أبي رقراق كصورة مفصلية، بين ضفّتين: الحنين والتغيير. تصير المدن مرآة للانقسام الداخلي، والعبور بينها ليس جغرافيا بل نفسي. تتحدث عن شالة، لا كموقع أثري، بل كأنقاض لحب دفنته في الذاكرة.
هذا الوعي بالمكان كحالة وجودية يعبّر عن العلاقة المعقدة بين الجغرافيا والوجدان، حيث لا يمكن للمرأة أن تنفصل عن الفضاء الذي خذلها.
الرواية أيضا تسائل فكرة الوطن، لا من منظور سياسي، بل بوصفه فضاء داخليا متصدعا. تتنقل عايدة بين المدن كأنها تتنقل بين أجزاء من ذاكرتها المجروحة.
في هذه اللحظة، تصبح الكتابة نفسها امتدادا للفكرة الأساسية. عايدة تكتب لأنها لم تعد تثق في الواقع. لا تكتب لتسرد، بل لتستعيد توازنا داخليا مفقودا.
تحضر شخصيات نسوية في خلفية كل هذا، مثل ليلى ونجاة وزينب ومَي وريم، لا كزينة سردية، بل كامتدادات لأبعاد الذات النسوية المتشظية. كل واحدة منهن تمثل مسارا موازيا، يعبّر عن سؤال المرأة في المجتمع: كيف نحيا دون أن نفقد أنفسنا؟ كيف نحافظ على صوتنا وسط الضجيج؟ كيف نُحب دون أن نُكسر؟
تتداخل هذه الأصوات لتجعل من الرواية فضاءً متعدد الطبقات، حيث لا صوت يعلو على الآخر، بل تتجاور التجارب لتشكّل صورة جمعية للمرأة التي تحاول أن تكتب كينونتها في عالم لا يمنحها إلا الظلّ.
الرواية لا تكتفي بتقديم المأساة، بل تفتح باب الأسئلة: هل المرأة مطالبة دائما بأن تكون قوية؟ هل تملك الحق في الانهيار؟ هل من الضروري أن يتحقق الحب ليمنح الحياة معناها؟ تبدو هذه الأسئلة غير قابلة للحسم، لكن النص يصرّ على طرحها، لأن الوعي لا يُبنى على الأجوبة، بل على الجرأة في مساءلة المسلّمات.
وبهذا، فإن عِقد المانوليا ليست رواية حب، ولا رواية خيانة، بل رواية عن كيف تصير الذات، حين يُنتزع منها ما تحب، مشروعا لفهم العالم من جديد. تجربة المرأة في النص ليست استسلاما للخذلان، بل بداية للوعي. الخسارة لا تنتهي بالانكسار، بل تبدأ منه. والذاكرة ليست عبئا يُنسى، بل أداة للفهم. ومن بين الركام، تخرج الكاتبة، عبر عايدة، لتقول: يمكن أن نحيا حتى بعد أن نخسر كل شيء، بشرط أن نفهم لماذا خسرنا.
الزمن في “عِقد المانوليا” ليس أفقا خطيا، بل هو فُسيفساء نفسية. لا يتقدّم الحدث بقدر ما يعود على ذاته. الكاتبة تعتمد بنية “الارتداد الزمني” لتستخرج من الماضي خلايا فاعلة في الحاضر.
الزمن النفسي، زمن الندم والانتظار، أقوى من الزمن الفيزيائي. والأهم أن الذاكرة لا تُستعاد كماضي، بل كحاضر بديل، تستكين فيه الشخصية إلى ما لم يحدث، إلى ما كان يجب أن يحدث.
اللغة في رواية “عِقد المانوليا” ليست مجرد وسيلة للسرد، بل هي كيان جمالي قائم بذاته، ونظام دلالي يُعيد صياغة التجربة الإنسانية في مستوياتها الأعمق. إنها لغة مشبعة بكثافة وجدانية، تتجاوز الأداء التواصلي إلى وظيفة كينونية، حيث تصبح الكلمة مرآة للذات الموجوعة، ووسيلة للخلاص من العطب الداخلي.
تتّسم اللغة عند نعيمة السي أعراب بانزياحها عن العادي والمألوف، فهي تنحت مفرداتها من تربة الشجن، وتعجن تراكيبها بإيقاع شعري خافت، يجعل النص أقرب إلى قصيدة طويلة منه إلى رواية. الجمل في الغالب قصيرة، مشدودة الأعصاب، كأنها تُولد من رحم التأمل، تحمل توترا داخليا يعكس تمزّق الذات الساردة. ثمّة انسياب لغوي متوتر، تتحرك فيه الكلمات كما لو كانت تتهجّى شعورا غير مُفصح عنه.
تستخدم الكاتبة تقنيات بلاغية تتراوح بين المجاز والاستعارة، الكناية والتشظي الدلالي، لتُواري المعنى تارة، وتُبرزه تارة أخرى. بهذا الأسلوب، تُمارس اللغة لعبة الغياب والحضور، وتمنح القارئ فرصة التأويل لا التلقّي، فتغدو الرواية بذلك فضاء تأمليا مفتوحا، لا وثيقة جاهزة.
تتخلل النص إشارات بينية إلى نصوص شعرية وفكرية، سواء عبر التضمين المباشر أو الإيماء المثقّف، ما يضفي على الرواية بُعدا مثاقفاتيا. الكاتبة تُحاور من خلال لغتها نصوصا سابقة، وتستدعيها لتمنح تجربتها شرعية أوسع، فتغدو الرواية نسيجا من أصوات متداخلة، وليس صوتا واحدا مغلقا.
واللافت أن اللغة ليست مستقرة أو متماثلة في كل الفصول، بل تتقلب تبعا لمزاج الذات الساردة. في لحظات الانكسار، تكون اللغة متكسّرة، متقطّعة، كأنها تتهجّى الانهيار. وفي لحظات الحنين، تنساب اللغة بعذوبة مريرة، كأنها تستجدي زمنا مفقودا.
تتبدّى اللغة في رواية عِقد المانوليا ككائن حيّ نابض، لا تؤثث النص فحسب، بل تشكّل جوهره وعمقه الشعوري. ببلاغتها الرقيقة واحتشادها العاطفي، تمارس اللغة دور “الشخصية الخفية” التي تُعيد تشكيل العالم من الداخل، لا تواكبه فقط بل تخلقه. ليست اللغة عند نعيمة السي أعراب مجرد أداة للسرد، بل هي فاعل مركزي “يُفكّر ويبني ويؤوِّل”، فتغدو الرواية درسا في إمكانات اللغة حين تتحول إلى مرآة للروح، وتستحيل الكلمات ضرباً من طقوس الوجود.
ولعل هذا المعنى يتجسد بجلاء في قول الراوية:
“كيف تقفز بنا اللحظات من حال إلى آخر، تتسلق بنا الجدار العالي، مثل قطة مشاغبة لا تستقر في موضع…” (نص القطة)
هنا تتحول الصورة إلى تعبير رمزي عن تقلبات الوجدان، حيث تمتزج اليوميات بحس شاعري يوحي بأن اللغة ليست انعكاسًا للتجربة، بل صانعة لها.
إننا بإزاء نص “كُتب بالدمع قبل الحبر، وبالصمت قبل النطق”، لغة تنحت الألم بالكلمات وتعيد تعريف الحكي كطقس وجودي، لا يُجاري الزمن بل يسمو عليه. ومن هذا الأفق الوجودي، تُكرّس نعيمة السي أعراب صوتها ككاتبة تمتلك نَفَس الشاعر وبصيرة الفيلسوف، تكتب بلغة تنصت للداخل وتُصغي لما يُقال في الهامش والظل والفراغ، كما توحي به اللحظة المؤثرة حين تمس البطلة وجه نوري قائلة:
“مررت أصابعها على وجهه، تلامس نعومة خده وذقنه، مستشعرة روعة مشاهدته نائمًا… أمسكت بيده بين راحتيها، وهمست إليه…” (ص83)
تستدعي هذه الصورة لحظة حميمية مكثّفة، تنبع من رحم الألم والرغبة في ترميم الجراح بالكلمات، وكأن اللغة نفسها فعل تطبيب وشفاء.
أما من حيث البنية الفنية، فتتّسم الرواية بتقويض صريح لآليات السرد التقليدي، إذ تعتمد على تشظي الحكاية وتفتت الخط الزمني، وغياب البناء الدرامي المتصاعد لصالح البنية الشعورية المتنامية. لا تبحث الرواية عن بداية أو نهاية، بل عن مكاشفة داخلية، تتوسل التجربة الذاتية بوصفها تأملا سرديا. في هذا السياق، لا يبدو حدث زيارة عايدة للطبيب محسن حدثا روائيا بالمفهوم التقليدي، بل مساحة تأملية، تتقاطع فيها الحوارات العابرة مع التأملات الداخلية، كما في هذا المقطع:
“- مرحباً دكتور محسن!
– أظنك لم تنسي موعدنا!
– أنا عند وعدي…” (ص 81)
تتجاوز هذه الحوارات وظيفتها السردية لتعبّر عن دينامية خفية بين الشخصيات، تكشف عن هشاشة العلاقات ومكر التفاصيل الصغيرة.
ومن مظاهر التجريب أيضًا، أن الكاتبة تفصل بين الفصول دون أن تقطع خيط التأمل، فتحوّل كل فقرة إلى وحدة دلالية شبه مستقلة، لكنها تتصل بالكل في بناء دائري يذكّر بالمنمنمات الشرقية: لا أهمية لمركز الحدث بقدر أهمية تكرار انعكاساته، وتكاثرها مثل تموجات الماء. كما أن اعتماد أسلوب المراسلات والاعترافات والخواطر، وتوظيف الكولاج النصي حيث تتجاور أنماط خطابية متعددة (السرد، الرسائل، الشعر، الحوار الذاتي، الحلم) يعزّز من هذا التداخل، ويضفي على الرواية طابعًا هجينًا، يجعلها نصًا عابرًا للأنواع بين الرواية والمذكرات والسيرة الذاتية.
ويُضاف إلى ذلك أن منطق الحكاية لا يخضع لتسلسل سببي صارم، بل يظهر كما لو كان “أثراً في الذاكرة”، يطفو إلى السطح من حين لآخر، محدثًا صدى شعوريًا دون الحاجة إلى حل درامي. فتتداخل الأزمنة، وتتشظى الأحداث، وينحلّ الحدث في موجة شعور، كما نجد في حوار مراد وهو يحلق ذقن نوري:
“أتعلمين، لم تتح لي فرصة الاعتناء به من قبل، فلطالما برع في لعب دور الأخ الأكبر…” (نص القطة)
يتحول هذا الاعتراف إلى لحظة تصالح مع الماضي، وشهادة وجدانية تُعيد ترتيب العلاقة بين الحضور والغياب، بين الندم والحنين.
وتبلغ اللغة ذروتها حين تتحول المذكرات إلى استبطان عميق للذات، كما في قول عايدة:
“وأنا أكتب هذه المذكرات، أحاول استرجاع كل الأحداث بتفاصيلها… الآن بدأت الصورة تتوضح في ذهني وفي قلبي…”(ص88)
يتحول النص هنا إلى مرآة لانكسارات الذات، لا تبحث عن إجابات بقدر ما تعترف بجراح الأسئلة، فتغدو الرواية تجربة روحية أكثر منها حكاية.
فإن رواية عقد المانوليا ليست مجرّد قصة عن الحب والفقد، بل نصّ تجريبي بامتياز، يوسّع من إمكانات اللغة ويختبر حدود الشكل الروائي. تكتب نعيمة السي أعراب نصها بنَفَس شعري لا يخاف من الصمت، وتُراهن على لغة تُصغي لنبض الإنسان في مكمن هشاشته. إنها رواية تقرأ الذات وهي تتهاوى وتنهض، متأرجحة بين السؤال والحنين، وبين ما يُقال وما يُلمح إليه في الظلال.
من الناحية الزمنية، تشتغل البنية الفنية على مستويات متراكبة: زمن الحكي، زمن الكتابة، زمن التذكّر، وهي أزمنة تتشابك لتصنع طيفا من الأزمنة النفسية التي تُفضّل التأمل على الحركة. ينعكس هذا التشابك في استعمال تقنيات كالفلاش باك، والارتداد السردي، والانقطاعات الشعورية، ما يمنح القارئ تجربة متقطعة تشبه التصفّح الداخلي لذاكرة موجوعة.
إن غياب البنية الكلاسيكية للرواية لا يعني الفوضى، بل اختيار جمالي واعٍ بفلسفة التفكيك. فالرواية تشتغل على تجزئة الحكاية، لكنها تبني وحدة شعورية متماسكة تُعبّر عن التيه العاطفي والفكري لشخصياتها. ومن خلال هذه الفوضى المقصودة، تقترب الرواية من الحقيقة أكثر، لأنها تُحاكي تمزّق التجربة الإنسانية لا اكتمالها النظري.
بهذا الشكل، يمكن القول إن البناء الفني في “عِقد المانوليا” لا يخدم فقط الرؤية السردية، بل يعكس بشكل عضوي الحالة النفسية والشعورية التي تعيشها البطلة. إنه هيكل داخلي لكينونة مزلزلة، تبحث عن توازنها وسط انهدامات الذاكرة والعاطفة واللغة.
يحمل النص الروائي في “عِقد المانوليا” بُعدا ثقافيا وفكريا مركبا، يتجاوز التجربة الفردية لعلاقة حبٍّ مأزومة ليطرح سؤال الهوية، وسؤال المرأة، وسؤال الكتابة في عالم متصدّع. إن الرواية لا تكتفي بسرد حكاية ذاتية، بل تُنصت إلى نبض الجماعة، وتُحاور التراث، وتفتح نوافذها على نقاشات معاصرة تُلامس قضايا الوعي النسوي، والانتماء، والاغتراب، والذاكرة.
في صميم الأفق الثقافي للنص تقف عايدة، لا بوصفها أنثى مجروحة، بل بوصفها امرأة كاتبة، تكتب من موقع مزدوج: موقع المتألمة وموقع المتأملة. ومن خلال هذا التموقع المزدوج تتكوّن مرآة الذات الكاتبة، التي تُواجه مجتمعا يراكم خيباته على جسد المرأة، ويُصادر لغتها ويُشكّك في قدرتها على السرد والإبداع.
إن الرواية تُقيم حوارا داخليا مع الثقافة الأبوية، لا عبر المواجهة المباشرة، بل من خلال تفكيك الأدوار والتمثلات. فالرجل في الرواية، ممثلا في نوري، لا يُقَدَّم كخصم مباشر للبطلة، بل كرمز لانهيار المنظومة العاطفية والوجدانية التي تُطوّق المرأة. إنه رمز لانكسار الثقة، وانهيار مشروع الشراكة. وبهذا المعنى، تتبدّى الهوية في الرواية بوصفها مشروعا هشا، لا يُبنى على الاستقرار، بل على التوتر المستمر بين الذاكرة والواقع.
كما أنّ الرواية تسائل مفهوم الوطن لا باعتباره جغرافيا، بل باعتباره حمولة رمزية ومجالا للصراع. الأمكنة في الرواية (الرباط، سلا…) ليست فقط ديكورات مكانية، بل هي مستويات للانتماء والانفصال. والوطن، من خلال هذا المنظور، يتحول إلى سؤال مفتوح: هل الوطن هو الآخر الذي يخون؟ هل هو الماضي الذي يخذل؟ أم هو اللغة التي نكتب بها جراحنا؟
وهكذا، تنخرط الرواية في مساءلة ثقافية عميقة لقضايا الاغتراب، والهوية الأنثوية، وحدود الحب، وتُطرح الكتابة كفعل مقاومة. الكاتبة لا تُقدّم خطابا نسويا جاهزا، بل تُنتج سردا يُفكّك الأنوثة من داخل التجربة، ويجعل من عايدة ذاتا تعي تمزّقها وتُفكّر فيه، لا ضحية تندب حظّها.
تتجلّى الثقافة في الرواية أيضا من خلال إحالاتها التناصية إلى نصوص شعرية وفكرية، عربية وغربية، ما يمنح النص طبقات دلالية متعددة. فالقارئ يُصادف تارة إشارات إلى شعراء، وأخرى إلى المتصوفة، وأحيانا إلى مفكرين معاصرين. هذه المثاقفة تُسهم في بلورة خطاب أدبي معرفي، يجعل من الرواية حقلا للحوار بين الحساسيات الجمالية والفكرية.
من جهة أخرى، تؤسس الرواية لنوع من الكتابة التأملية التي تضع المرأة في مركز المعرفة، لا كمفعول بها، بل كذات فاعلة تكتب ذاتها، وتحلل صمتها، وتُدرك أن الألم حين يُكتب يتحول إلى معنى. والكتابة، بهذا المعنى، ليست فقط فنا أو ترفا، بل هي أداة وجودية، وتكتيك بقاء، واستعادة للكرامة.
وبين كل هذه المساحات، تبقى الرواية استشكالا لسؤال الكينونة: كيف نكون نساءً في عالم مأزوم؟ كيف نحافظ على صوتنا دون أن نتحوّل إلى نسخ من نماذج مسبقة؟ كيف نكتب من دون أن نصير وعاء للمرارة فقط؟ إنها أسئلة لا تجيب عنها الرواية بشكل مباشر، لكنها تُثيرها كضوءٍ قلقٍ على جدران هوية متصدعة، تحاول أن تتماسك بالكلمات.
“عِقد المانوليا”، في أفقها الثقافي، ليست فقط تعبيرا عن موقف من الحب أو من الرجل، بل هي بحث وجودي عن المعنى، وسؤال للذات في مرآة مكسورة، لا تعكس الجمال وحده، بل تكشف الشروخ وتُعري الداخل وتُضيء ما هو مُهمل في الظلال.
رواية “عِقد المانوليا” نصّ دافئ وغائر في آن واحد. نصّ ينتمي إلى سرد الوعي، حيث الكينونة الأنثوية تتشكل وسط العطب، واللغة ليست أداة للتعبير فقط، بل طقس وجودي للنجاة. لقد نجحت الروائية نعيمة السي أعراب في تشييد نصّ ينفتح على التأمل، ويقترح على القارئ أن يُعيد النظر في مسلّماته العاطفية والثقافية.
“عِقد المانوليا” ليست حكاية امرأة فقط، بل حكاية إنسان يبحث عن جدوى الحنين في زمن مكسور، ويحاول أن يكتب ذاته، لا ليتذكّر، بل ليبقى.