حمزه الحسن يكتب :الحروب السعيدة

المحن التي عاشها العراقي لا مثيل لها في التاريخ،
من حيث الشدة وطول الزمن والقسوة وتكفي تجربة واحدة منها لاجهاض قارات من الحوامل ،
ومن الطبيعي جداً أن يعاني من ذلك كما يحدث للأشجار والطيور والأزهار عندما لا تجد بيئة مناسبة للحياة،
ومن غير الطبيعي ألا يعاني لأن المعاناة خاصية بشرية في حين الحيوان يتألم،
ومن لا يعاني من وحشية ظروف عشرات السنوات وحتى حياة كاملة إما وحش غير مدرك أو جلاد أو منتفع .
في 28 أيلول 1994 غرقت الباخرة أستونيا في بحر البلطيق قادمة من تالين عاصمة أستونيا في الطريق الى استوكهولم ووصل إجمالي عدد القتلى إلى 852 وكان على متنها وقت الحادث 950 راكباً،
ومن خلال أفلام الفيديو الملتقطة قبل الغرق بلحظات وحالات المرح،
دخلت الدول الاسكندنافية في حالة حداد عام وكآبة،
بل لم تستوعب العيادات النفسية عدد المحتاجين لمساعدة طبية من مجرد مشاهدة أفلام،
وهو الأمر نفسه يوم قام السفاح النرويجي أندرس بريفيك وفي 22 يوليو 2011 بمذبحة لشباب حزب العمل الحاكم في النرويج في معسكر في جزيرة أوتايا،
وقد كان متنكرا في زي ضابط شرطة،
ثم فتح النار على الشباب ومن بينهم مقتل شابة عراقية مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 85 وجرح المئات،
وقبل ذلك بنصف ساعة تقريباً قام بتفجير سيارة مفخخة قرب مقار حكومية أدت الى قتلى وجرحى،
وكما حدث عند غرق الباخرة دخلت النرويج في حالة الاكتئاب النفسي العميق وشهدت العيادات النفسية الخاصة إقبالاً إستثنائياً من مجرد مشاهدة افلام.
هذه الشعوب المتحضرة لا تعرف المعارات السوقية والصبيانية حول الاضطرابات النفسية بسبب احداث طارئة لانها تلجأ للعلم والثقافة في التفسير وليس لعقلية الثأر والتشفي والسطحية وهذه من خصائص العقل المنحرف والمشوه الذي لا يدرك نفسه وبلا صورة ذاتية كحيوان يتشاجر مع صورته في المرآة .
اذا كنت تريد ان تعرف حقيقة انسان ما ، لا تهتم بما يقول أو يكتب، بل ماذا يفعل، والقاعدة بسيطة جداً: أنظر كيف يتعامل مع محن ومآسي الآخرين، توجعاً أم استخفافاً أم لامبالاةً، وعندها تعرف موت أو حيوية الضمير لأن لحظة الشروق الأولى في تاريخ البشرية لحظة ولادة الضمير يوم ركض الانسان الأول لتضميد جرح إنسان آخر.
من حدث واحد مرض الناس في حين على العراقي تحمل حروب أكثر من نصف قرن وارهاب وخوف وقلق وحتى عمليات ذبح على الارصفة حتى صار عندنا الانسان المشوه هو الانسان الطبيعي،
وصار الانسان الطبيعي المشمئز من الدم والبشاعة هو المريض.
نحن لسنا أقل رهافة وحساسية وأصالة من هذه الشعوب كما قد يتمشدق أحد ما ويقول لا تقارنا بهذه الشعوب، بسبب عقدة الشعوربالدونية،
لأن الأعماق الانسانية واحدة في مواجهة الموت والخطر والفناء والقتل،
ولا فارق بين ردة فعل فلاحة في سهول آسيوية وبين عالمة في مؤسسة سويسرية أمام الموت.
التشوه الحقيقي يحدث عندما يتوقف جمهور من الكبار والأطفال
أمام مشهد ذبح على الرصيف لأشخاص عزل، لالتقاط الصور في جو احتفالي بربري وعندما يرى الاطفال برامج” صور من المعركة” تعرض صور القتلى في المساء بدل أفلام الأطفال.
هل يستحق العراقي المعارات الغبية لانه لم يتحمل البشاعات والمذابح؟
من الغريب أن هذه المعارات الصبيانية تصدر من مثقفين ـــــــــــــ الوصف العراقي للمثقف لا يتطابق مع الحقيقة ــــــــــــــــ ومن كتّاب عن بعضهم كما نقرأ أحياناً في هذه المرحلة كما لو ان العراقي محروم حتى من ” الحق في المرض” وهو حق طبيعي وليس مكتسباً: فأية ديمقراطية هذه؟ أي صنف من المثقفين هؤلاء “اللّنكات” أو بالات رصيف الملابس المستعملة؟
بل ذهب بعضهم للتنقيب في حياة الشاعر السياب وظهر انه يعاني من” العصاب النفسي” كما في مقال لناقد معروف في جريدة القدس العربي بعنوان ” في الذكرى السادسة والاربعين لرحيله: ما الذي تبقى من السياب؟” بتاريخ 28 كانون الأول 2010 كما لو أن السياب متشرد يجب حرق أسلابه، والمقال مخصص لارضاء جهة حزبية ناصبت السياب العداء.
المفارقة في بلاد العجائب ان هذا الناقد نفسه أقام احتفالية في اتحاد الادباء في بغداد لأشهر نصاب ــــــــــــ منتحل نصوص محترف بعد إخفاء الأثر ـــــــــــ في تاريخ الثقافة في العراق على انه روائي وشاعر قادم من المنفى وهو أمي لم يدخل في مدرسة وتعلم القراءة في حملة محو الامية وهرب من العراق لسرقة متجر من اسواق الشورجة وكان يتاجر بالعملة على طريق المطار ومنظف منزل وطباخ الشاعر عبد الوهاب البياتي ـــــــــــ البياتي مات مسموماً كما كتبت الدكتورة ميسون البياتي إبنة أخ البياتي في موقع الحوار المتمدن ــــــ ومرتب مائدة سمره الليلية براتب شهري مع الشعراء سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر في عمان الاردن ونسب لهم اقوالاً كاذبة بعد وفاتهم وهو ليس أكثر من نادل أو جرسون أو طباخ يجر خلفه سيرة ثقيلة عفنة.
السياب عاش ظروفاً لا تحتمل من المرض والعوز وحملات التشهير وحتى الاعتداء الجسدي من “الرفاق” وحسب محاضرة للشاعرة لميعة عباس عمارة في” ديوان الكوفة” في لندن عام 1996 قالت بالحرف:
” لقد أوصى أحد قادة الحزب الشيوعي الرفاق: على كل من يصادف بدر شاكر السياب بالطريق أو أي مكان أن يهينه ويبصق عليه”. فقط لان السياب اختلف مع” الرفاق”،
وهذه ” التوجيهات” صدرت بحق أعداد كبيرة من المثقفين ومن السياسيين وحتى من بين صفوفهم من مكتب خاص بالتشهير السياسي والاخلاقي وصل الى لغة يخجل منها حثالات الحانات الرخيصة وكانت النتيجة خروجاً جماعياً صامتا من جميع كتاب وشعراء الحزب منه ولم يجرؤ واحد منهم كما فعل السياب على تدوين تجربته لانه يعرف ان هؤلاء يشرّوه على حبال غسيل وسخة لذلك آثر الصمت الجبان كما فضل من قبل تسويغ خطابات الحزب الانشائية الباهتة التي كلفت شباباً وشابات أرواحهم بلا سر ثورة.
نشرت ” مذكرات ” لميعة عباس عمارة في جريدة الشرق الأوسط في تاريخ 25/09/1996 في العدد 6511، في حلقات وذكرت هذا الحدث في الحلقة الثامنة لكن كل هؤلاء اختفوا وطواهم النسيان وظل السياب علامة مضيئة في تاريخ الادب العربي عندما غير قواعد الشعر وقواعد التخيل أيضاً.
الشاعرة عمارة زميلة وصديقة السياب في دار المعلمين العالية التي صارت كلية التربية.
كتب الشاعر محمد الماغوط الذي رافق السياب في بيروت وهو في قالب الجبس الطبي بطلب من الشاعر يوسف الخال كتمثال أبيض متنقل إنه صدم من الحملة على السياب من رفاقه القدامى في ان السياب عميل في المخابرات الامريكية ولا يمكن تخيل، يقول الماغوط، ان يجلس السياب في مقهى بنظارات سوداء ويتظاهر بقراءة جريدة وهو يراقب المارة.
ربما لا يعرف الماغوط ان” رفاق السياب” لم يعرفوا من الماركسية غير هذه العاهات حتى اليوم ولقنوا أجيالاً عليها ويمكن العودة الى كتاب السياب نفسه” كنت شيوعياً” عندما عرى وفضح هؤلاء بالأسماء . لماذا تحول دفاع السياب عن نفسه الى عصاب نفسي عن طريق الكلمات في حين تم الصمت عن كل تلك الاساءات المخزية؟
تم اختزال الشاعر السياب في حالات غضبه على عدوان وظلم وتعسف تعرض له ونسيان ثورته الشعرية واللغوية بل جعل تفكيرنا مختلفا بتغيير اللغة وهو أمر لا يحدث في الآداب العالمية حيث صراعات الأدباء والفلاسفة والمثقفين مع المؤسسات والنظم والتقاليد والافكار لا حدود لها.
جنود الكيان الاسرائيلي وفي حرب محدودة في غزة ويتم استبدالهم خلال شهور وتوفر كل ظروف الحرب من طعام ورعاية طبية وسلاح وحسب صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية :
” طلب جنود احتياط في الجيش الإسرائيلي، الذين أنهوا أشهرا من الخدمة العسكرية المساعدة بشكل متزايد للحصول على علاج للصحة النفسية.
وأشارت الصحيفة إلى إقبال كبير من جنود الاحتياط على العلاج النفسي منذ إطلاق برنامج يتيح لهم هذا الحق. وذكرت أن 170 ألف جندي قد سجلوا في البرنامج للاستفادة من خدمات العلاج النفسي من غير آلاف الجنود الذين طلبوا مساعدة طبية وكثيرون يعانون من اضطرابات نفسية”.
في حين على العراقي تحمل حرب 6 اكتوبر 1973 مع اسرائيل ، وحرب الجبال بين عام 1974 ـــــــ 1975 وما بعدها، وحرب ايران من عام 1980 ــــــــــ 1988 أطول حرب تقليدية في القرن العشرين ثم غزو الكويت عام 1990، والحصار من عام 1990 ـــــــــــــ 2003، ثم من 2003 حتى اليوم احتلال وارهاب وفساد وقلق من القادم وهو الجندي نفسه في كل الحروب كآلة ميكانيكية بلا مشاعر ولا عواطف ، وغالبا ما يكون هؤلاء من أبناء الجنوب في حين يتولى” الآخرون” مسؤوليات المقرات الخلفية والمكاتب والقيادات في ظروف مرفهة:
من غير المعقول واللامعقول ألا يملك العراقي الحق الطبيعي في الحياة والحق الطبيعي في المرض والحق في المعاناة؟.
ـــــــــــــ الحروب السعيدة عنوان قصيدة للشاعر المرحوم رعد عبد القادر وهو عنوان تهكمي غير مباشر بتضاد الكلمات.