حمزه الحسن يكتب :قاطع طريق الأمل

ــــــــــ قد يقع الانسان ضحية إيمانه العظيم بنبل القلب الانساني.
* دويستوفسكي.
هناك دائما يأتي معتوه في لحظة غير متوقعة ليخرس غناء طائر او مغني أو طفل . قاطع طريق الأمل لا يتوقف عن القدوم لكن في لحظة غير متوقعة وينبثق من تشابك وتصادم ظروف ويضرب بقسوة وتكون لطمته قاسية كإرتطام بقطار قادم من الجهة غير المتوقعة.
قاطع طريق الأمل قتل يوما المتنبي، بشار بن برد، لوركا، طرفة بن العبد، بابلو نيرودا مات مسموماً، الروائي الجزائري طاهر جاووت، المغني التشيلي فكتور جارا، حتى ألبير كامو ظهر أخيراً ان حادث السيارة كان إغتيالاً بعد إحداث مشكلة تقنية في السيارة من جهاز مخابرات. حاول المعتوه قطع رقبة نجيب محفوظ الذي مد يده له معتقداً انه جاء لمصافحته. القائمة طويلة.
عندما كان الروائي الروسي ألكسندر سولجينيتسن في المنفى بعد هروبه من الاتحاد السوفيتي ونشر روايته” أرخبيل غولاغ” عن معسكرات القمع للمثقفين والمختلفين وحصوله على جائزة نوبل وحملة ردح عالمية حزبية موجهة ضده، قال:
” كل ما أخشاه قدوم المعتوه قاطع طريق الأمل”.
هناك دائما معتوه يقطع الاسترسال الطبيعي للحياة والفرح والبراءة وفي حالات لا يحتاج المغني او الشاعر او المثقف والمفكر أو الفنان للرصاص لقتله بل يكفي إغتيال أحلامه وخيانة ثقته وفرحه البري وايمانه بنبل القلب وترك ثغرة صدئة في قلبه والمضي كأن شيئاً لم يكن. هذا الصنف أخطر وأقذر القتلة لانه لا يقتل الجسد بل يستهدف منظومة أحلام نقية وحياة نظيفة، أي كل ما ينقصه ويكرهه ويخاف منه.
لكي تقتل الطيور، اقطع الاشجار واحرق الحقول، لكي يموت السمك نشف الانهار، هناك دائما بيئة، مناخ، للجريمة.
قاطع طريق الأمل قد يكون سلطة، قد يكون فرداً، وقد يكون تقاطع ظروف وربما يكون زمناً.
المعتوه ليس الأبله الساذج ولا المجنون غير المدرك لنفسه بل المصاب بــــــــــ” العته الأخلاقي moral Idiotisme ” مدرك لما يفعل ويعرف اضطرابه ومستمتع به لكنه استعراضي نفاخ ويرى ويفسر الحياة بشكل مخيف ومقلق ومقلوب وله معايير منحرفة لكن على المستوى النفسي يشعر بدونيته ويعرف ان الاقنعة التي يرتديها لا تتطابق مع قدراته الحقيقية ومن هنا صراعه المستمر الذي يخفيه بالتوحش والعدوانية تارة او الاقنعة العاطفية تارة أخرى. مرة ذئب شرس ومرة قناع حمل وديع حسب الظروف والأشخاص والمناسبات ، أي مجمّع شخصيات متنقلة في فرد.
عندما كان جون لينون مغني فرقة البيتلز وهو شاعر وعازف غيتار ويساري عائداً الى بيته في نيويورك وكانت زوجته اليابانية في انتظاره، هو البريطاني الأصل، أطلق النار عليه شخص ظهر أنه معتوه
وخلال محاكمته قال صراحة إنه لا يعرف لماذا قتل لينون.
كان لينون قد وقّع قبل ساعة على البوم اغانيه بعنوان” خيال مضاعف” للقاتل: تعطي اغنية مقابل رصاصة، باقة ورد وتستسلم خنجراً من الخلف: تلك ثنائية تاريخية تتكرر بأشكال مختلفة.
لم يكن القاتل يعرف لماذا قتل المغني لكن المغني يعرف القاتل،
ليس القاتل الذي أطلق النار، بل الذي دفع ودرب المعتوه، أصدقاء لينون يعرفون. زوجته اللبوة اليابانية منذ الحادث عام 1980 حتى اليوم تطالب بفتح التحقيق ولم تستسلم للرواية الرسمية وتقول لينون أُغتيل لسبب مختلف والقاتل دمية وفي كل عام حفل سنوي احتفاءً لاجل المغني ولكي يكون عقابا للقتلة تطاردهم عبر التاريخ.
كان لينون يقف في الساحات العامة في نيويورك خلال الحرب الفيتنامية
أمام مئات الالوف وهو يعلن رفض الحرب ،
حتى اضطرت السلطات الامريكية يوماً الى شحنه من الميدان العام وأمام الجمهور والى المطار وطرده الى لندن.
بعد عام ، أي 1981، قُتل المغني الجامايكي بوب مارلي مغني السلام والتمرد والحرية عندما تنكر عميل في سي اي ايه بصفة صحافي لاجراء مقابلة واهداه حذاءً رياضياً وطلب ان يجربه وعندما وضع بوب قدمه في الحذاء صرخ: كانت في داخله ابرة سامة ومع الوقت بدأ بتداعى وتساقط شعره الشهير وجف ومات وهذا ما اعترف به القاتل على سرير الموت لكنه قال: لست نادما ، لقد أديت واجباً.
عندما كان جون لينون يسقط ، كانت فتاة تجلس في حديقة وتسمع أغنيته الشهيرة” الغابة النرويجية” التي تتحدث عن فتاة نرويجية دعته الى المنزل المبني من الخشب النرويجي، غالبية البيوت هنا من الخشب بسبب الثلج والامطار، ولم يجد كرسياً يجلس عليه، لكنه جلس على سجادة،
وفي الصباح عندما استيقظ لم يجد الفتاة، فقرر اشعال النار في منزل الخشب النرويجي. تقول الاغنية:
” ” أرتني غرفتها، أليست هذه جيدة؟ إنه الخشب النرويجي، طلبت مني البقاء والجلوس، نظرت حولي فلم اجد مقعداً،
جلستُ على البساط وعندما إستيقظت كنت وحدي،
طار هذا الطائر، لذلك أشعلتُ النار، أليس هذا جيداً…الخشب النرويجي؟”
قبل أن تنتهي الأغنية تسمع فتاة الحديقة صوت أطلاق الرصاص ولينون
يتداعى والاغنية مستمرة. تكريماً له هناك اليوم حديقة في نيويورك في المكان الذي سقط فيه تسمى:
” حديقة الفراولة” وهو عنوان أغنية شهيرة له ولفرقة البيتلز. كان يحلم بعالم متخيل كما في اغنيته” تخيل”:
” تخيل أن كل الناس يعيشون بسلام ، بإمكانك أن تقول إني حالم، ولكني لست الحالم الوحيد ،آمَل أن تنضم إلينا يومًا وسيصبح العالم كواحد.
تخيل أن ليس هناك أملاك، أتساءل إن كنت تستطيع
لا حاجة للطمع أو الجوع أُخوّة الإنسان . تخيل أن كل الناس يتقاسمون كل العالم”.
سقط مضرجاً بأحلامه.
يمكن قتل المغني لكن من المستحيل قتل الحلم العادل والنظيف بحياة آمنة وعادلة وطبيعية:
الروائي الياباني الشهير هاروكي موراكامي كتب واحدة من أجمل رواياته مستعيراً عنوان الأغنية” الغابة النرويجية”، ومن السطور الأولى بعد سماع الأغنية تنهال التداعيات والذكريات. تقول ناوكو إحدى شخصيات الرواية:
” هذه الأغنية تجعلني أشعر بحزن جارف، لا أعرف، يتراءى لي أنني أتجول في غابة عميقة وحدي في ظلمة باردة “.
مات المغني لكن الأغنية تدور، صار الدم حديقة فراولة، الغابة النرويجية مشرقة وصارت رواية، لكن ” المعتوه ” يتغير بالاسم لا بالوظيفة ويسحق كل مرة بأقدام ثقيلة من يعرف ومن لا يعرف بلا ندم كما قال قاتل بوب مارلي وهو على سرير الموت.
كيف يندم المعتوه على ” شيء” او عجلة او باب او طاولة قام بتفكيكها؟ هو التشيؤ reification تحويل العلاقات الانسانية الى علاقات ميكانيكية بلا ندم ولا مشاعر ذنب بل بمتعة وحشية مرضية كأفعى تستحم بالسم تحت الشمس في العشب.
هناك دائما “معتوه” ياتي في الوقت غير المتوقع ويحاول قطع طريق الامل لكن يمكن قتل المغني غير ان من المستحيل قتل الاغنية وكل اسلحة الكون لا تستطيع قتل اغنية واحدة.
كلما ظهر معتوه في الطريق نقول: نحن ذاهبون الى الأمل.