حمزه الحسن يكتب :محنة المختل

قدم عدد من أعضاء مجلس النواب طلباً لتقديم رئيس المجلس محمود المشهداني الى لجنة طبية لفحص سلامته العقلية بعد اساءته للهوية العراقية ووصفها بالسخف.
من دون شك ان المشهداني لا يفرق بين الهوية السياسية والحزبية وبين الهوية الوطنية والانسانية وعلى الارجح قصد الاولى كما يلوح من ظاهر الكلام.
لكن المشكلة في موضوع فحص السلامة العقلية للمشهداني: ما هي معايير هذه السلامة؟ وحسب اية قواعد ومن سيقوم بذلك؟ وكيف يفهم العراقي السلامة او الصحة العقلية وما هي شروطها؟ مفهوم الصحة العقلية أعمق من التصور والفهم السائد.
السلامة العقلية في العراق تحددها علاقات القرب والبعد والعلاقات والولاء والاختلاف والحب والكراهية والصيت والسمعة وحتى الوشايات وذهنية النميمة ولا تخضع للمعايير الثقافية والعلمية المقررة في موضوع الصحة والسلامة العقلية والنفسية.
هذه السلامة تحددها ظروف وشروط اجتماعية وبيولوجية وعائلية وضغوط محلية وكيفية التعامل معها والتجارب الفردية والتوازن العاطفي والنفسي والاجتماعي وكيف ينظر المجتمع للمرض النفسي والعقلي،
ولو دخلنا في هذا النفق لما خرجنا منه لكن لو عرض المشهداني على لجنة طبية للتأكد من سلامته العقلية ، رغم انه طبيب وهنا المفارقة، كيف ستنظر اللجنة له؟
ثم ان معاييرنا عن السلامة العقلية لا علاقة لها بكل معايير علم النفس الحديث والقديم وكل ثقافات الشعوب اذ نحن نصنف الصامت والمخلوس والمخروع والخائف والمتطابق مع الجميع على انه عاقل ، وعلى العكس من ذلك نصنف غير المتكيف والمختلف والمتمرد والخارج من القطيع على انه مريض نفسيا ومختل، وفي مجتمعات” الاستنساخ” التشابه أقدم وأهم من الإختلاف.
من أين نعثر على لجنة طبية سليمة لا تحمل جروحا نفسية عميقة من كوارث العراق وويلاته ومصائبه؟ وأين ولد وعاش هؤلاء الأطباء في نصف القرن الأخير الدموي؟ وكيف نجوا من العاهات والتصدعات النفسية؟
وماذا، مثلاً، لو ان أعضاء اللجنة الطبية من ملل ونحل وفرق وتيارات سياسية وطائفية مختلفة وكل واحد يحكم على المشهداني انطلاقا من معاييره وفهمه للسلامة العقلية وبعضهم يعده عبقرياً، وآخر يراها حكيماً، وثالث يراه طائفيا واخوانيا وخليجيا وامريكيا، ورابع يراه مضيع صول جعابه ــــــــــ مثل عن فقدان السيطرة ــــــــ ويهذي؟ وخامس يراه ضمن مشروع تفتيت العراق القادم؟
في هذه الحالة كيف سيكون تقرير اللجنة الطبية؟ ثم أين نعثر على سائق سيارة اسعاف ناجي من أوجاع وتصدعات وأحزان هذا المجتمع لنقل المشهداني الى مستشفى الامراض العقلية والنفسية ؟
اذا عثرنا على هذا السائق” المتوازن” ومفهوم التوازن العراقي لا علاقة له مطلقا بالسلامة العقلية، بل التوازن حسب الفهم السائد ان يكون منضبطا ومكيفا ومتأقلما بشوارب تربط الثور وقلم حبر في الجيب العلوي للسترة وحذاء يصرج ورشة عطر، ولا أحد يحفل ويهتم بالأعماق النفسية أو يشتري الثقافة والكفاءة والنزاهة.
لو عثرنا على هذا السائق المعجزة، أين نعثر على كادر تمريضي من ممرضين وممرضات من خارج الولاءات والتيارات والطوائف والاوهام والأساطير والعقد النفسية؟ وماذا لو كان بعض اعضاء اللجنة من عمام المشهداني؟ أو من بلدته؟ أو زملاء مدرسة؟ أو أعضاء محفل أو تنظيم سري؟
أين يمكن العثور على لجنة طبية بعقل هادئ غير جريح تجارب ومحن ومعايير العراق ترى الحياة والناس من خارج منطقة العطب وليس بمنظار بندقية قنص حيث ترى كل مختلف هدفاً وهي الرؤية السائدة اليوم وبعد اليوم في عقل مستقطب يرى كل شيء من خلال الابيض والأسود وفي حالات كثيرة يرى بعيون أخرى منحازة وأحكام مسبقة وهذه أخطر أعراض إنهيار السلامة العقلية ــــــــــ غير المدركة لأن المُلقّن لا يفكر بل يردد ويجتر ـــ وفقدان الاستقلالية الشخصية في التفكير؟ كيف يمكن للمختل والببغاء والملقن أن يحدد من هو العاقل والمتوازن؟
في العراق يستطيع أي شخص لا يفرق بين علم النفس وبين الخس، يستطيع أن يحدد من هو العاقل والمتوازن ومن هو المختل والمريض بلا فحص ولا عيادة ولا رؤية المريض ولا حتى مقابلة كما في التقاليد الطبية العالمية بل يمكنه أن يحدد عن بعد نوع المرض الذي لا تعرفه والعلاج الذي لم تسمع به والطبيب الأسطوري الذي شخصك: هذا هو عالم الغوغاء.
مرة كتبت لي حشاشة ـــــــــــ تعترف بذلك ــــــــ مسنة ومحطمة من الكحول والفشل والاحباط وجنون الهجران على الخاص تقول انني أعاني من الفوبيا وترهات أخرى بلا أي معرفة سابقة. هذه بالضبط الخفة العقلية، والاحمق يعرف كل شيء عن أي شيء.
لو قررت اللجنة مثلا سلامة المشهداني العقلية، فمن يضمن سلامته الفكرية والأخلاقية والطائفية والسياسية؟ ولو حكم عليه بفقدان السلامة العقلية، أين يجب أن يوضع؟ في مصح أم في مجتمع؟ وكيف سيكون العلاج وحسب اي نظام علاجي نفسي وما هي القواعد؟ ثم من يضمن ان أعضاء اللجنة البرلمانية الذين قدموا هذا الاقتراح تنطبق عليهم شروط الصحة العقلية؟ ولو كانوا أصحاء مثلاً، كيف قبلوا أن يكون رئيسهم مختلاً عقلياً؟ ولو حكم عليه انه مختل، فحسب أي مقياس أو مفهوم للعاقل؟
من يحدد المعايير في مجتمع متشظي وموزع ومنقسم؟
من هو منقذ ومصلح في حي وشارع، هو معتوه ومخبل في حي وشارع اخر، ومن هو فيلسوف في هذه البلدة هو مجنون في أخرى، ومن هو لص هنا، هو هناك زعيم جبهة إنقاذ.
في مجتمع منهار المعايير العامة، يحلل ويحرم كل فرد حسب مصلحته ورغباته خارج الإيقاع العام وهي علامة الانهيار العام في كل شيء.
ولو خرج المشهداني، مثلاً، مثلاً، من المصح العقلي بعد العلاج ، إلى أين سيذهب؟ لو عاد الى رئاسة البرلمان أو المجتمع ستتكرر المشكلة نفسها،
فلا مريض نفسياً يشفى لو عاد الى المكان نفسه الذي أنتج المرض.
ـــــــــــ الصورة في كانون الثاني 2022 خلال رئاسته الاولى للبرلماني محمود المشهداني محمولا على الأكتاف بعد تعرضه للضرب من أعضاء البرلمان بصفته أكبر الأعضاء سنّاً ” ؟”.