حمزه الحسن يكتب :الندم كمعرفة متأخرة

كيف يستطيع الانسان التحرر من أخطاء الماضي على ضوء معرفة جديدة،
دون أن يقع في الندم؟
يستهل الناقد المغربي عبد الفتاح كليطيو كتابه الجديد: ” في جو من الندم الفكري” بعبارة ملفتة للفيلسوف غاستون باشلار تقول:
” إذا ما تحررنا من ماضي الأخطاء، فإننا نلقى الحقيقة في جو من الندم الفكري،
والواقع أننا نعرف ضد معرفة سابقة”.
الندم هو التأسف على ما فات أو الشعور بالخطأ أو كان يجب للأحداث أن تمشي في طرق أخرى مختلفة لكن هل كان هذا ممكنا وخيارا لو وجد الانسان نفسه في تداخل ظروف قاسية تصنع ” مناخ الخطأ”؟
كيف يخرج انسان نظيفا معطرا لو وجد نفسه في منجم فحم او في بركة وحل؟
الندم أحياناً كحرية متأخرة تأتي بعد فوات الأوان. في رواية سارتر “سن الرشد” الجزء الأول من ثلاثية دروب الحرية: سن الرشد، وقف التنفيذ، الحزن العميق، يقول ماتيو عن صديقته مارسيل:
” إن الحرية التي أحدثها عنها، هي حرية إنسان مكتمل الصحة”.
شعور بالندم والألم والعجز وهو يحدث مارسيل الحطام عن حرية بعد فوات الأوان لان مارسيل الحطام لم تعد بحاجة لحرية متأخرة كحفلة عيد ميلاد لمحتضر. الحرية تتطلب العافية والعنفوان والطموح.
ماثيو الطموح ومارسيل الحطام التي أضاعت الزمن الذي كان يجب أن تحياه وفات الأوان:
” كان ثمة شيء في نفسها بلا ريب : فإنه لم يسبق لحركاتها أن كانت على مثل هذه الفجاءة ، ولا لصوتها أن كان خشناً ، رجولياً ، كما هو الآن . كانت جالسة على السرير اسوأ مما لو كانت عارية ، بلا دفاع ، كأنها إناء ضخم من الفخار المنقوش ، في جوف الغرفة الوردية ؛ وكان يشق على المرء أن يسمعها تتكلم بصوتها الرجولي ، بينما تنبعث منها رائحة قوية غامضة ، وأخذها ماتيو من كتفيها وجذبها اليه : إنك آسفة على ذلك الزمن ؟”،
فقالت مارسيل بجفاف : ذلك الزمن ؟ كلا : بل أنا آسفة على الحياة التي كان يمكن أن أحياها”.
قراءة الحدث القديم على ضوء حقائق ومعرفة ومشاعر وتجارب جديدة ضد ما كنا نعرفه هو تحرر من الماضي لكنه وقوع في الندم. أي تعرف ما لم تكن تعرفه بسبب المسافة بين الحدث وبين وعي التجربة في زمن مختلف.
هل الندم دائماً بسبب الأخطاء؟ وماذا يفعل الانسان إذا وجد نفسه في تقاطع وتشابك وتداخل قوى وظروف خارج قدرته وسيطرته ولم تكن خياراً؟
قد لا يكون الندم بسبب الأخطاء بل غياب جو الوضوح والتداخل في الصور
والاحلام والاوهام والقوى والقدرة.
في ضوء تأمل الماضي في مناخ مريح، في جو من التفتح والحرية والصفاء،
نكتشف أن الامور في الماضي لا يجب أن تكون جرت كما حدث،
وكان يمكن أن تحدث بصورة مختلفة،
وهنا نقع في خطأ بعد أن تحررنا من أخطاء الماضي وهو قراءة الماضي على ضوء معرفة الحاضر،
ومن المحتمل أن يقود الندم الى أسوأ من خطأ الماضي: مشاعر ذنب.
في عبارة البير كامو حكمة كبيرة:
” تعرفون إسمي ولاتعرفون قصتي، تعرفون ماذا فعلت ولا تعرفون الظروف التي مررت بها”،
والظروف التي مر بها تفاصيل هائلة متشابكة، وهو وحده مخول بالرد عليها،
ولا يحق لأحد أن يكون قاضياً على شبكة تفاصيل هائلة
صنعت أحداثاً قاسية لا يعرفها أحد لمجرد انه يعرف عنوان الحدث او القصة:
كيف تطلب من شخص دخل الى منجم للفحم بقميص أبيض ويخرج ناصع البياض بلا بقع؟
عندما كان الروائي المغربي محمد شكري يرقد في مصح تطوان للامراض النفسية بعد الحملة الشرسة التي تعرض لها بسبب :
” الخبز الحافي” سيرة ذاتية روائية بلغة مفتوحة في عالم عربي يتواطأ مع الجريمة السرية بالصمت لكنه يخاف من التعبير عنها،
كان الناقد والروائي المغربي الدكتور محمد برادة هو الوحيد الذي تواصل معه وراسله عندما تخلى عنه الجميع بل حاربوه وتحولت الرسائل الى كتاب:
” ورد ورماد”،
وفي واحدة من تلك الرسائل يقول شكري إنه سيتخلى عن حياته بسبب الأخطاء التي إرتكبها عندما ترك معركته مع نفسه لكن برادة يرد عليه :
” لا تتخلى عن حياتك، بل تصالح معها، ولو دخلنا في تفاصيل من أخطأ ضد من، سنقع في دوامة،
تلك على أية حال لم تكن أخطائك وحدك”.
خرج شكري من المصح وكتب رواية:
” زمن الأخطاء” وغيرها في جو من الصفاء الفكري وصار الندم معرفة وحكمة باردة .