رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :طقوس حفلة شواء

ــــ الخوف أسوأ من العقوبة، لأن العقوبة في نهاية الأمر شيء محدد وواضح بشكل أو بآخر. على الأقل أكثر وضوحاً من الغموض المريع والتوتر اللانهائي الفظيع اللذين يولدهما الخوف* ستيفان زفايغ. روائي نمساوي.
هل يدرك العربي حجم الدمار الداخلي النفسي والعضوي والجسدي الذي أصابه؟ هو يرى دمار المدن لكنه لا يرى الخراب الأخطر فيه وكم هي الأشياء والأحاسيس الحية التي قُتلت فيه أو تعفنت.
الارهاب الاخطر ليس في القتل والسلاح فحسب،
بل في الخوف المزمن والقلق من القادم وغياب الأمل وفي تقبل التفسخ العام كظاهرة “عادية”، في الآمال المحبطة والرعب على مستقبل الأطفال،
وفي الكوابيس وغياب كل أخلاقيات التضامن، في الاجهاض اليومي للاحلام العادلة.
سلطة فاشية أو دكتاتورية تحدث تحريفاً جوهرياً في نظرة الإنسان الى نفسه لكن هذه المهمة القذرة قد تقوم بها جماعة متسلطة وحتى يمكن أن يقوم بها شخص واحد متسلط يحدث في الأسرة من الدمار النفسي والجسدي ما تعجز عنه سلطة متوحشة لأنه على تماس مباشر بضحاياه وتفاصيلهم التي يتحكم بها والشخصيات التي يفرضها عليهم خارج توقعاتهم وأحلامهم كمعاطف جاهزة وهذا إغتيال هادئ وأنيق أن يعيش الانسان بشخصية ليس مستعداً ولا متوقعاً ولا راغباً بها كدور مسرحي طارئ.
تاريخ البشرية بتعبير عالم النفس والمؤرخ أريك فروم مؤلف” الخوف من الحرية” هو تاريخ عصيان، فهل يكون الإذعان نهاية التاريخ؟ العرب دخلوا تاريخ الاذعان وفي تاريخ غير التاريخ البشري.
لم يعد العربي قادرا على التمرد لانه هو الضحية وهو الجلاد ، فعلى من يتمرد؟ تحول العدو الخارجي الى عدو داخلي وتوسع زمن السجون وصار هو نفسه سجنا متجولاً ويعيش وهم حرية ما دام قادراً على الفعل والمشي والانجاز لكن أي فعل وأي انجاز سوى الركض المستمر وفقدان القدرة على التوقف وعلى التأمل والعودة الى زمن البطء بدل هذا الاستنزاف المهلك؟
يقول الفيلسوف الكوري الجنوبي بيونغ تشول هان في كتابه” مجتمع التعب”:
” ميشيل فوكو تحدّث عن مجتمع الانضباط: قوانين، مراقبة، مؤسسات. أما اليوم، فالقوانين اختفت، لكن السيطرة زادت. صرنا “نحب” العمل، ونستثمر في أنفسنا، ونتحمّل مسؤولية فشلنا بالكامل. لا أحد يمنعك، بل الجميع يقول لك “تستطيع”، و”يجب أن تحقق ذاتك”. هذه الإيجابية هي شكل جديد من القمع الذاتي. الفشل لم يعد نتيجة ظلم، بل دليل على نقصك الشخصي. والنجاح أصبح واجبًا. هنا بالضبط يتحول المجتمع إلى آلة طحن هادئة”.
” القدرة على التوقّف هي شكل من أشكال القوة. التأمل ليس رفاهية بل ضرورة لمقاومة النظام”.
صار التأمل مخيفاً والحل هو الهروب الى الهاتف وشبكة التواصل والانترنيت والبحث عن أي شيء ” يسكن” الخوف الداخلي لكن بخوف مضاعف لأن العلاج العابر نفسه تحطيم.
الارهاب في انك لا تعرف الى اين يقودك قتلة ومسوخ وحثالات ومرضى.
ليس هناك ما يشوه الانسان ويحوله الى أنقاض وحطام متنقل،
أكثر من شعور الخوف،
أكثر من ربع قرن هنا في هذا البلد لم أعرف أو أشعر بالخوف بل نسيت الخوف لكن أشعر به عندما أتذكر وأحلم.
الخوف من كل شيء ومن لا شيء وهذا هو الإرهاب، أن تضبط ساعتك كل لحظة على توقيت حدث مرعب وشيك.
هذا تعذيب وجلد يومي قد لا يحسبه البعض من الادمان والتكرار مثل من يعيش قرب مستنقع لا يشم مع الوقت الرائحة او من يعيش في جوار محطة قطار أو ماكنة طحن لا يسمع مع الوقت الدوي.
الظاهرة المكررة تصبح لامرئية وتصيب الناس بما يسمى: العمى الاجتماعي.
أخطر أنواع الخوف هو الوجودي المهدد للكيان لأن هذا النوع من الخوف يحوله الى جيفة متنقلة، رغم الأناقة الخارجية،
ومن حسن حظ هؤلاء ان التفسخ الداخلي لا يطلق رائحة أو دخاناً،
لصارت الشوارع جيفاً وظلاماً، والمسوخية داخلية وليست كمسوخية غريغور سامسا في رواية كافكا ” المسخ” الخارجية مع البقاء على الذات صافية .
الخوف من كابوس يكبس على صدرك وأنت في حفل أو حديقة أو في قطار، في انهيار حلم ثقيل من أيام قديمة وأنت تستحم في الحمام، الخوف من سقوط ذكرى على رأسك وأنت تلقي محاضرة أو تسمع موسيقى، الخوف من مداهمة شرطة سرية من زمن قديم وانت تروي قصة مرحة، الخوف من لطمة حنين على الوجه وأنت تحلق ذقنك، الخوف من حرب مؤجلة، من حصار، من صراع مسلح، من وشاية، من أمل منسي يطاردك.
كيف يمكن للانسان تنظيم حياته بلا أسس ثابتة ، حتى الطيور لا تبني اعشاشها في مكان مهدد. لو لم يكن العصفور واثقا من الحياة لما بني عشه بتعبير غاستون باشلار.
الخائف كائن غير طبيعي ومقطوع الصلة بالحياة وعلاماتها المشرقة ويمكن السيطرة عليه من سلطة أو جماعة أو فرد واحد لأنه مفرغ من الآدمية ويحتاج الى عكاز . الخائف لا يخلق شيئاً بالمطلق. يكذب من يدعي انه يقول الحقيقة وهو يكذب.
الحقيقة كالاشجار والازهار تحتاج الى بيئة وقانون وبشر يحترمون الحقيقة وليس تجمع وشاة وببغاوات في أقفاص ونصاب أو مشعوذ أو دجال يستطيع تحريك شريحة أو طبقة من المجتمع لا يستطيع أي فيلسوف وعالم ومثقف أن يحرك شعرة في رأس فيهم لأن البنية العقلية مصممة عبر قرون على الأساطير والترهات والأقاويل والسرديات الشفوية وتصاب بالتسمم من الحقائق كتناول طعام فاسد. عشرة فلاسفة وعلماء نفس وأطباء كبار يستطيع نصاب ــــة أن يتلاعب بهم لأن هؤلاء من معايير مختلفة وعالم مشرق ونظيف وواضح.
البعض وجد تسوية من الخوف والتحرر منه بحل أفظع من الخوف: الموت في الحياة أو العيش بقناع يتبدل حسب الشخوص ــــــــــــ كما تفعل بعض الحيوانات في التظاهر بالموت عند الخطر لكن الفارق ان موت الحيوان عابر ومؤقت وذكي ــــــــــ وتنازل عن الحرية والأمل والمصير وعن المستقبل ، ومن أي شيء يخاف من لا مستقبل ولا مصير له؟ لكنه سيكتشف بعد فوات الأوان إن هذا التنازل اللاوعي حرمه من حياة حقيقية كاملة الى وهم عيش وانه تكيف مع خيال السلطة ، سلطة دولة أو جماعة أو فرد، وتدجن وماتت فيه عناصر الحياة الحقيقية: من أي شيء يخاف الميت؟
الخائف عاجز عن المتعة واللذة إلا بشكل ميكانيكي بارد، لا يعرف معنى الفرح البشري الحقيقي، ولا يعرف الحزن ولا التعاطف او التضامن وحتى علاقته باطفاله ليست علاقة حب بل علاقة واجب وادارة باردة وعقلانية من دون مشاعر حارة لان من تخلى عن ذاته وكرهها وهرب منها بصناعة شخصيات مزيفة لا يحب أحداً وهذا الكائن بلا وعي ينقل تشكيلة هائلة من المخاوف والمشاعر السلبية للاطفال ويستحق سحب الرعاية الاجتماعية أو النتيجة إضافة معاقين عقلياً في المستقبل.
الاطفال يثقون بما يرون أكثر من ثقتهم بما يسمعون من نصائح أخلاقية.
لا يعرف هذا الكائن الخائف والمسخ بالاكراه أو الرغبة أو الغفلة ان الانسان الطبيعي فيه قد أٌغتيل، وتركوه جثة تتمشى في الشوارع.
الخائف يتخيل الواقع كما يتخيل الاخرين كما يرغب لا كما هم في الواقع ويؤسس أحكامه على الفنتازيا والتخيلات لا على حقائق لانحراف وجودي حدث في رؤيته للحياة ونظرته مقلوبة ومخيفة لكل شيء حتى نفسه،
ولأنه في سلسلة انفصالات عن ذاته وعن المحيط وعن الحياة وصلته بهذه العناصر سطحية بل علاقته بالحياة سطحية كعلاقة القدم بالحذاء لأنه حاوية أحلام متعفنة متنقلة.
الانسان الخائف خطر حقيقي على نفسه وعلى المجتمع وعلى أطفاله وعلى كل شيء جميل لأنه مشروع خطر في كل لحظة وجريمته ليست عن خطأ بل قرار ، ليست سهواً أو صدفة أو سوء تقدير بل عن مخطط طويل ينسج بسرية عنكبوت ويظهر كصدمة قاتلة.
الخوف المزمن أخطر من أي مرض عضوي يمكن الشفاء منه وليس هذا كلام علماء طب أو حكماء أو فلاسفة فحسب بل ما تقوله التجربة البشرية كل لحظة.
الخوف هو الارهاب غير المرئي الذي نتجاهله وهو يحفر كمنشار في لحم حي. الخوف يجعل الانسان غريباً عن نفسه ومنفياً ومغترباً وأداة ميكانيكية في عجلة ضخمة مسننة فاقد المصير.
يهرب الخائف من مصيره وحريته لكي يحترق ويتآكل من الداخل وينهار ببطء وتدرج وكما قال دوستويفسكي:
” لاتعترف بالحريق الذي بداخلك. إبتسم وقل أنها حفلة شواء”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى