طه خليفة يكتب :مهاتير محمد.. مئوية رجل عظيم نفتخر بأنه يعيش معنا

في 10 يوليو الجاري، أتم مهاتير محمد – زعيم ماليزيا العتيد، وباني نهضتها الحديثة- مئة عام من عمره المديد.
شاهدت مقطع فيديو قصيراً للاحتفال بهذا الرجل العظيم، الذي نفتخر بأنه يعيش معنا على الكوكب، إذ بدا فيه كأنه في عمر أقل من المئة بكثير، صحته معقولة، جسده منتصب بغير إنحناءة، وجهه يخلو من تجاعيد الزمن.
ربما لأنه طبيب بالأساس، لهذا يعيش حياة صحية، ويحافظ على لياقته وحيويته.
ورغم ذلك فإن هذه الحيوية قد تتناقض مع كونه سياسياً وحاكماً أمضى 24 عاما في قيادة بلاده، و37 عاما نائباً برلمانياً، وما أدراك ما السياسة والحكم حيث القلق والتوتر والضغط والإرهاق والمشكلات والأزمات، وكِبَر السن قبل الموعد.
غالبا الحاكم الرشيد لا يتأثر بضغوط الحكم، ليس تهرباً منها، أو تجاهلاً لها، أو تحميلاً للمسؤولية لغيره، إنما لأنه يحكم بإخلاص وعقلانية ومسؤولية، ولا ينفرد وحده بالإدارة والقرار، لهذا تكون النتائج آمنة وفي صالح الشعوب والأوطان، ومن ثَم فإنه ينام قرير العين، هانئ البال، فلا يتأثر بالهموم، ولا يترك الزمن علاماته الصعبة عليه.
لكن في الحكم غير الرشيد يحدث العكس، ودعكم مما يبدو على وجوه حكام هذا النوع من ابتسامات وضحكات، هذه مشاهد مفتعلة في وجوه بلاستيكية، فالمستبدون لا ينامون كما ينام الناس، ولا يهنأون كما يهنأ الناس، لأن تشبثهم بالحكم هو شغلهم الشاغل، وهم يخشون فقدان السلطة من كل صوت وكلمة ورأي تقال ضدهم، يحسبون كل صيحة عليهم، يعلمون أن مغادرتهم قصور الحكم ستجعلهم في أسفل سافلين حتى لو نجوا وظلوا يعيشون في قصور ببلدان الهروب.
مهاتير تقلد رئاسة الحكومة في ماليزيا 16 يوليو 1981، وغادر الحكم طوعاً، لا كرهاً أو انقلاباً، أو بضغط ثورة، في 31 أكتوبر 2003، وعاد إلى بيته آمناً مطمئناً، معززاً مكرماً، محاطاً بمحبة الشعب الماليزي حيث تغيرت حياته إلى الأفضل كثيراً على أيدي هذا البنّاء التاريخي الذي انتقل ببلده من الهامش إلى المكانة الآسيوية والدولية اللائقة بها.
وفي مغادرة هذا الرجل للحكم درس لبلدان العالم الإسلامي خصوصاً، وعالم الجنوب عموماً، بأن هناك حاكماً يترك القصر بإرادته بعد أن يحقق نهضة غير مسبوقة، وهذه النهضة كانت كفيلة بأن يبقى كما يشاء بالسلطة في ظل ترحيب شعبي به.
لكن لا أحد في منظومات الحكم في بلدان العرب والمسلمين يستوعب مثل هذا الدرس، أو يسعى لتكراره ليدخل تاريخ بلاده والعالم من صفحاته الناصعات، وليس مغادرته من أشد أبوابه سواداً.
مهاتير يختلف أيضا عن حكام الجنوب، فهو منتخب بحرية ونزاهة من شعبه طوال فترتي حكمه، فالحزب الذي يقوده كان يفوز بأغلبية مقاعد البرلمان، فوز حقيقي دون تشكيك في سلامة مقعد واحد، لم يأت إلى الحكم على ظهر دبابة، فهو السياسي المدني الذي تدرب وتمرس على العمل العام وسط الناس، وصعد تدريجياً حتى وصل إلى قمة هرم السلطة، ولم يهبط على الحكم في غفلة من الزمن، أو ينتزعه بالقوة والخديعة.
وتجربة أردوغان في تركيا شبيهة بتجربة مهاتير في ماليزيا، إذ إنه يقود حزباً يفوز بالانتخابات منذ عام 2002، وعندما جرى تعديل الدستور ليكون نظام الحكم رئاسياً فإنه فاز بالرئاسة مرتين متتاليتين في 2018 و2023، كما يواصل حزبه حصد أغلبية مقاعد البرلمان.
والتشابه أيضا في أن أردوغان صنع تجربة تنموية ممتازة في بلد كان اقتصاده في الحضيض، وعملته الوطنية منهارة، والفقر والفساد يدمران مفاصله.
مهاتير نموذج لكون الحاكم في بلد مسلم، أو أغلبيته مسلمة، يمكن أن يكون رشيداً وناجحاً دون استبداد، وأن البلدان الإسلامية قابلة للإصلاح والتحديث خلال زمن قياسي بالحكم المدني الديمقراطي، وحرية الشعوب في اختيار من يمثلها، وهى التجربة التي أراد الربيع العربي تحقيقها، لكن الاستبداد المتوطن بعمق، وسذاجة أطياف من صناع هذا الربيع، تسبب في كسر التجربة، واستعادة استبداد أشد.
ليس هناك النموذج العربي لـ”مهاتير وأردوغان” الذي يحتكم إلى الديمقراطية، ويحترمها، ويفوز بثقة الشعب في انتخابات حرة، ويحكم بعدالة، ويسير على طريق التنمية بخطوات مدروسة، ويرفع مستوى حياة شعبه.
التنمية والحكم المطلق
مع هذا قد يمكن تحقيق تنمية في ظل حكم مطلق، لكنه مستقر، مُتوافَق عليه شعبياً، ويكون الحاكم منصفاً وقريباً من مواطنيه، ويعاملهم بطريقة لا قهر فيها، أو استكبار عليهم، ونموذج ذلك بلدان الخليج التي تقدّم تجارب تنموية ناجحة تجعلها في حالة تطور دائم.
هل كان ممكناً صنع نموذج جاد وفعال في التحديث في البلدان العربية والإسلامية في ظل غياب الديمقراطية؟
الثابت أن الطريق الآمن والصحيح للتطور هو الديمقراطية، ورغم ذلك، إذا كان تغييب الديمقراطية فوق إرادة وطاقة الشعوب، فإن الحكم إذا اتسم بالجماعية والمسؤولية والعقلانية والاستنارة والاستشارة والتأني والدراسة وعدم الاندفاع والكفاءة والقرارات الصائبة ومحاربة الفساد والبيئة السياسية النظيفة غير المضللة فإنه قد ينجح في الإصلاح والنهوض.
الصين وسنغافورة وفيتنام وإندونيسيا، وبقية نمور آسيا، وبلدان في أمريكا اللاتينية، حالات تستحق الدراسة للنجاح الاقتصادي مع غياب الديمقراطية، أو وجود مستوى معيَّن منها.
مهاتير عاد إلى الحكم في مايو 2018 ، بعد أن تركه 15 عاما، لمواجهة فساد في مسار الحكومات التي أعقبته، ثم غادر الحكومة بعد عامين في فبراير 2020، ولم يُوفَّق في الفوز بمقعد في البرلمان في انتخابات نوفمبر 2022، وهذا لا يقلل من شأنه وقيمته ودوره وتاريخه في ماليزيا، واسمه وشعبيته في العالم، وبين المسلمين خاصة، فهو سيظل نموذجاً باهراً مثيراً للفخر، مؤكداً أن الخروج من كهوف التخلف إلى أنوار الحضارة والتقدم ممكن جداً وبسهولة، وعلى أيدي عقول مدنية متعلمة جيداً منفتحة مخلصة متمرسة في السياسة والعمل العام منذ نعومة أظفارها.