حمزه الحسن يكتب : المقاييس القاتلة

يوم الاثنين الماضي اطلقت طالبة في السادس اعدادي في الناصرية في قضاء الشطرة النار على نفسها منتحرة لانها حصلت على معدل نجاح دون ما تستحق كما تعتقد وتستحق درجة نجاح أعلى.
هذا الخبر يتكرر كل عام في حالات انتحار طلاب نجحوا بدرجات ليست حسب توقعاتهم لكنهم نجحوا وهذه ظاهرة عربية أيضاً.
لكن هل درجة النجاح المتواضعة هي السبب؟ يلوح الأمر في الظاهر انه السبب لكن هذه ليست الحقيقة: المشكلة ليست في درجة النجاح بل في المعايير الحادة للنجاح التي تضعها الأسرة والمدرسة والمجتمع، في المثالية المطلقة المزيفة وفي هوس الاستكمالية مصدر الاضطرابات النفسية والكآبة والقلق والخوف من النقد ومعايير النجاح والفشل الفاسدة وتصوير الفشل كنهاية والنجاح المثالي دليل على قوة الشخصية وعلى الذكاء وبسبب الاهداف الكبيرة.
النجاح المدرسي في درجة 50 أو 100 هو نجاح في كل الأحوال وانتقال الى مستوى جديد والدرجة ليست تفوقا عقليا وثقافيا بل كانت فرصة او مصادفة وربما مشقة لكنه لن يكون دليلاً على قوة وضعف الشخصية وليس هو المعيار على النجاح في الحياة. الفشل المدرسي ليس فشلاً في الشخصية دائماً بل تحدده ظروف قاسية كما أن النجاح المدرسي ليس علامة قوة الشخصية ونجاحاً في الحياة. لقد إستطاع متلاعبون ونصابون من خداع أكثر الناس ذكاءً لأنهم لعبوا في مساحة قذرة لا يعرفها هؤلاء الضحايا كما يجر تمساح فريسته الى الوحل.
إن غالبية زعماء وقادة العراق اليوم كانوا من الفاشلين دراسياً ولا يملكون سوى شهادة التلقيح ضد الكوليرا أو الحصبة وفي أحسن الأحوال شهادة لا إله إلا الله وحتى هذه شهادة مزورة.
كما ان كثيراً من الأثرياء اليوم من حفاة الأمس في العراق بين مهرب سجائر وغنم للأردن كخميس الخنجر وغير مستبعد أن يكون مرشحاً لرئاسة الوزراء أو النجيفي أخوان وهم أصحاب إسطبل للخيول صار أحدهم محافظ نينوي والآخر رئيس برلمان، من غير من كان مدلك حمام وبائع شحاطات وفرارات ورئيس فريق نشل بل هناك حارس الوزير باقر جبر الزبيدي تحول الى فريق ركن بسبب خطأ الخياط الذي وضع له رتبة فريق مع علامة الأركان الحمراء خطأً وتمسك بها.
قصة خطأ الخياط العراقي ما بعد السريالية كانت ستصدم غابريل ماركيز وواقعيته السحرية.
العراق منذ تأسيس الدولة حتى اليوم يحكم من شلايتية وسرسرية وزبائن كهاوي وشقاوات حانات وشوارع وحثالات وليس من مثقفين وعلماء وخبراء.
إن بعضاً ممن كانوا معي أصدقاء في الصف المدرسي الثانوي ونجحوا بتفوق قد إعدموا كاللواء الركن قوات خاصة بارق عبد الله الحاج حنطة قائد قوات الخليج والعميد الركن قوات خاصة غازي جاسم الغراني رئيس أركان فيلق الحرس الجمهوري الثاني وتم اعدامهما بعد غزو الكويت بتهمة التقصير المزيفة وبعد أن تناول صدام معهم ومع غيرهم كاللواء الركن قوات خاصة عصمت عمر إفطار رمضان في القصر الجمهوري في 4 نيسان 1991 وهو أمر محير أن تتناول الطعام مع أشخاص وأنت مقرر سلفاً قتلهم لكن هذا هو عالم صدام حسين المنحرف والسادي.
معاييرنا في الفشل والنجاح خاطئة. ما معنى الفشل؟ مفهوم مرن ومطاط ويتوقف على طريقة تفسيرنا له وليس حدث الفشل نفسه:
كل الأمر يتوقف على الطريقة التي حفظنا فيها التجربة وتعاملنا معها وغالبا نضع العنوان الخاطئ: فشل، إحباط، صدمة، خيبة، على ضوء ذلك سنشعر ونفكر ونتصرف.
لا شيء إسمه الفشل كما هو سائد في المعنى العام وعادة نضع الفشل كنقيض للنجاح وهو تعريف خاطئ: النجاح هو فشل متكرر تم تجاوزه.
الفشل يعني سوء تقدير وتخطيط وتوقع مفرط، ومع ذلك كل فشل يختزن في داخله نجاحاً مخفياً،
كيف نعثر عليه؟
هنا النجاح الحقيقي وتجاوز محاولة فاشلة. غالبية العلماء عانوا من فشل تجربة، أديسون في المحاولة المئة نجح. الأخطر هو تعميم تجربة خاطئة على كل الحياة،
أو النظر لكل شيء من منظار الفشل والنجاح المدرسي وهناك آباء وأمهات يتباهون بالنجاح المدرسي للأبناء مع إنهما شخصياً يجران سيرة ذاتية مخزية.
هناك توصيف غير صحيح للمفاهيم. الليل لا يتناقض مع النهار بل يختلف عنه ويحتويه، الشجاعة لا تتناقض مع الخوف، الشجاعة هي خوف متحرر،
والحياة لا تتناقض مع الموت بل تتضمنه، ومن لحظة الولادة نحن في حالة هدم وبناء، موت وحياة،
والنجاح لا يتناقض عن الفشل بل يختزنه، النجاح وجه الفشل الآخر المخفي:
نحن أسرى قوالب وسجناء مفاهيم. قال ناقد لأسرة بلزاك طلبت رأيه:
” بلزاك يصلح لكل شيء إلا الرواية”
بلزاك سخر منه وصار أشهر كتاب فرنسا والعالم. الحدث نفسه عندما طرد المعلم البرت انشتاين من المدرسة كغبي لكن أمه علمته تعليماً خاصاً.
التاريخ في العراق ليس خطاً مستقيماً وقد يحلم الانسان أن يكون طبيباً لكنه يجد نفسه في منعطف مفاجئ وقد تحول الى ساعي بريد، وقد يحلم شخص أن يكون وزيراً يوماً لكنه في النهاية يصبح بائع عربة شلغم أو بالعكس ، بل أعرف شخصاً أميّاً لم يدخل مدرسة في حياته وتعلم القراءة والكتابة في حملة محو الأمية ونشال ونصاب محترف ومنتحل إحتفل به الاتحاد العام للأدباء في العراق مرتين” كشاعر قادم من المنفى”.
التزوير الثقافي أفظع من السياسي لكنه غير واضح لعامة الناس التي تخدعها الكلمات.
لا تقتلوا أولادكم بهذه المعايير الحادة المسننة القطعية وعلى كل حال أن مصير الانسان في العراق لا يقرره الجهد والطموح والارادة والهدف بل تحدده أحداث خارجية طارئة.
هناك نجاح مختفي في كل فشل، هناك دائما بداية جديدة،
والأهم كيف نجهز شباك الصيد لليوم القادم.